التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التطبيع و المشكلة الفلسطينية: (ادماج اسرائيل بعد تحييدها!!!)

 نوفمبر ٢٠٢٠م

"ان كان تأسيس المواقف علي سند الايدولوجيا مرفوض، فان اقامتها كذلك علي تصورات لا تعدو كونها أمنيات و توهم مرفوض، و بناءها علي ارضية العمالة لهذا البلد أو ذاك كذلك مرفوضة" ،،،


  القضية الفلسطينية و الصراع العربي -الاسلامي و المسنود من كل الحكومات و الشعوب الداعمة للتحرر الوطني من جهة و اسرائيل من الجهة الثانية؛ قضية شائكة و معقدة و يصعب اختزالها في احد آخر تمظهر من تمظهراتها و تحولاتها العديدة، فاسرائيل مذ كانت وعد الرب "قبل التاريخ" الي ان أصبحت وعد بلفور "وزير خارجية بريطانيا قبل الحرب العالمية الاولي"، الي ان تبنتها عصابات يهودية في وقت الاحتلال البريطاني لفلسطين، الي ان أصبحت تلك العصابات دولة في 1948م و ما تلي ذلك من حرب تلتها حروب.. و انعقد بشأنها اجتماعات لمجلس الامن و للجمعية العامة و صدرت بشأنها مئات القرارات، و تطايرت عشرات "الفيتوهات"، و ابرمت عشرات الاتفاقيات و التفاهمات و "الهدنات" بما فيها اتفاق التطبيع الابراهيمي مع الأمارات و البحرين و إعلان السلام و التطبيع مع السودان و الذي كان ثمرة لاتفاق شفهي و عبر الهاتف!! كل تلك تحولات مرحلية لا تمثل خاتمة المطاف و لا نهاية التاريخ.. 

لكن ما لا شك فيه ان مرحلة توظيف تلك القضية و الحرب بواسطة الانظمة الحاكمة العربية خصوصاً دول الطوق"الدول التي لها حدود قريبة مع اسرائيل" لجهة تثبيت دعائم حكمها و اسكات اي مطالبات باصلاحات سياسية و اجتماعية أو حتي اقتصادية و تحت الشعار الشهير "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" قد انتهت، هذا الوضع "توظيف الصراع داخلياً" كان مريح لاسرائيل فهو يطمئنها اولاً بأن لا خطر حقيقي عليها من الانظمة الباحثة عن شرعية وجود و الشعوب المقهورة؛ ثم يبرزها كجزيرة ديمقراطية مزدهرة تحيط بها محيطات قمع متلاطم الامواج من خلفها صحاري من خلفها ادغال!

ما انهي تلك المرحلة ليس استغناء الانظمة عن مبرر لقمع الرأي الآخر انما تحديداً تطورات ما بعد الربيع العربي في نسختيه الاولي التي انطلقت في ديسمبر 2010م في تونس و الثانية التي انطلقت في ديسمبر 2018م في السودان..

فاحد اسباب نجاح هذه الثورات هو نجاحها في تحييد عنصر اسرائيل كمعطي في السياسة الداخلية، و قد لعبت تطورات الصراع العربي الاسرائيلي و خصوصاً "اتفاق اوسلو" دور في ذلك.. 

نجح التحييد رغم صعود احد اخطر التيارات التي تستغل الصراع مع اسرائيل و دون افق واضح، اي جماعات الإسلام السياسي؛ في اكثر من بلد بعد الثورات، تونس و مصر بعد ان صعد سابقاً في ايران و السودان و تركيا و غزة و المغرب.." فقد تم الزام تلك التيارات و في اجواء الحريات التي اعقبت التغيير بأن لا تقدم علي أي عمل إلا بعد تحقق اجماع و طني، و برغم محاولات اخوان مصر عبر اسلوبهم في العمل بالخفاء؛ فقد مرت تلك المرحلة دون عقبات كبيرة، اذ بدا واضحاً ان مقاربة الاخوان لا تختلف كثيراً عن مقاربة الانظمة في النوع و إن اختلفت قليلاً في المقادير.

لكن تداعيات الثورات في مناطق اخري و انهيار التغيير في اليمن و سوريا و ليبيا و تراجعه في مصر، منح القوي الدولية و الاقليمية و اسرائيل نفسها فرصة لالتقاط انفاسها و إعادة تقييم الموقف..

ثم كان وصول ترامب الي سدة البيت الأبيض و انحيازه المفتوح لاسرائيل و تحامله علي ايران و معظم الدول الاسلامية "الفقيرة تحديداً" و تخليه عن دعم حل الدولتين نفسه، أوصل العلاقة بين حكومة اسرائيل و منظمة التحرير الي القطيعة التامة، و وصلت التفاهمات السابقة كلها الي طريق مسدود، و مركز اسرائيل في المنطقة بدأ يتغير من حالة اللا-حرب و اللا-سلم الي حالة مبهمة و هذا امر مزعج ليس لاسرائيل و اميركا وحديهما انما لكل أو معظم انظمة المنطقة، و عوضاً عن البحث عن حل مع الفلسطينيين "المنقسمين مع الأسف"، اختارت اسرائيل و اميركا و بدعم اقليمي و خليجي تحديداً الالتفاف علي هذا الواقع و الهروب للامام عبر توقيع اتفاقات سلام و تطبيع مع دول و جهات عديدة ليس بينها الفلسطينيون.

هذا الواقع الجديد لا يزال مبهماً، فالدول التي طبعت؛ لا تعرف مع أي اسرائيل هي طبعت، اسرائيل 67 ام اسرائيل اوسلو؟! الملتزمة بحل الدولتين و وقف الاستيطان ام التي لا يعنيها كل ذلك؟ اسرائيل التي عاصمتها القدس ام التي عاصمتها تل ابيب؟! اسرائيل التي تعترف بأنها تحتل الجولان و شبعا و علي استعداد لاعادتهما لاصحابهما؟! ام التي شرعت في ضمهما الي حدودها!، اسرائيل الدولة الديمقراطية ام الدولة اليهودية!!

البعض يروج اليوم الي ان بعض الانظمة تبحث عن دعم امني اسرائيلي-اميركي للبقاء بعد إن كانت في السابق تستقوي بحالة العداء! لكن تبقي الحقيقة التاريخية الساطعة التي تقول "لو كانت اسرائيل و اميركا تملك أكسير حياة الانظمة لما سقط شاه ايران" و نضيف اليها و لما سقط بن علي و حسني مبارك و كثيرون غيرهم..

العلاقة مع اسرائيل ليست طوق نجاة لأحد هذه حقيقة يجب ان يعلمها الجميع خصوصاً الواهمين! 

كثيرون في السودان يبررون قبولهم بل و غبطتهم بالتطبيع بسعيهم للانفكاك من أسر القومية العربية و الجامعة العربية 

مصيبة هؤلاء ان التطبيع كذلك جاء تحت عباءات الشيوخ "بن زايد و بن سلمان" و السيسي، فلماذا يتعامون عن رؤية تلك الحقيقة؟!

و البعض ارتبط التطبيع عندهم بالمن و السلوي "ذات ما كافأ الله به بني اسرائيل" و حل المشاكل السياسية و الازمات الاقتصادية لكن لحكمةٍ ارتبطت خطوة التطبيع برفع الدعم عن الوقود و مزيد من العنت و الضيق.. فيما لا تزال الازمة السياسية تراوح مكانها و السلام الاهلي متعذر!

نذكر هنا ان الصحفي المقرب من النظام السابق "حسين خوجلي" كان قد تحدث في مقطع فيديو تلفزيوني تم تداوله علي نطاق واسع قبل سقوط النظام و بعده؛ تحدث فيه محتجاً عن سبب حمل السودان لهم العالم الاسلامي فيما تحتفظ كل الدول الاسلامية الكبيرة بعلاقات حسنة مع اميركا و بعضها مع اسرائيل!؟ و تعليقنا علي ذلك ان المنطق المعوج هو ذاته انتقل من النظام القديم الي الجديد! ففشل نظام الاسلامويين ليس ناتجاً عن حرب ذلك النظام لاسرائيل انما ناتج عن النهج و الممارسة التي ارساها و كرس لها في ادارة البلاد لثلاثة عقود، فتلك السياسات هي المسؤولة عن الانهيار الاقتصادي و السياسي و ليست اميركا و لا اسرائيل، ذلك النظام كان يبرر العنت و المشقة (دينياً) علي انها مؤشر صحة "لن ترضي عنك اليهود و لا النصاري.." فانتهوا الي باحثين عن رضاهم و بأي ثمن!؟

لم يكن تحصين الفترة الانتقالية و التحول نحو حكم القانون غاية لأحد دعاة التطبيع.. كما ان اميركا ترامب "و غير ترامب ايضاً" لا تملك الكثير لتقدمه لتثبيت الديمقراطية و دعم الانتقال بعكس ما روجت له بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، اسرائيل كذلك غير معنية و "غير مطلوب منها" اسناد اي انتقال ديمقراطي و اقامة دولة حكم القانون في السودان أو في غير السودان.. ربما تكون هناك مصالح سياسية التقت لوهلة و يتم تبادل خدمات سياسية "محسوبة" فترامب مر بمحنة انتخابات الفترة الرئاسية الثانية و نتنياهو استنفد حظوظه السياسية و اجري أربعة انتخابات في اقل من عامين دون ان يحوز اغلبية أو يتم اقصاءه و بقي محتاج لحلفاء لا يستطيع ان يحكم بدون دعمهم و هو مضّطر لقبول اشتراطاتهم .. فيما حكومة السودان الانتقالية استلمت تركة وطن مثقلة بكل انواع الأزمات و عاجزة فيما يبدو عن ادارتها و تحتاج لأي دعم مهما كان قدره و شروطه!!

الحديث عن ان تطبيع السودان لعلاقاته مع اسرائيل مرتبط بازالة اسمه من قائمة الارهاب، حديث فيه تخليط، فالعداء بين السودان و اسرائيل سابق لدخول السودان في قائمة رعاية الارهاب بعقود، و عدد الدول التي لا تقيم علاقة باسرائيل اكبر من تلك التي لها صلة بها، ان قرار اقامة علاقة دبلوماسية بين دولتين هو قرار سيادي لكل دولة و ليس موضوع يمكن اجبار دولة عليه أو الزامها به! و إن كان دعم حكومة الانقاذ لفصائل فلسطينية مصنفة اميركياً علي انها منظمات ارهابية "حماس و الجهاد.." فان وقف ذلك الدعم يكفي و ليس بالضرورة ان نشاطر اسرائيل العلاقات و إن نشاركها قناعاتها، و لا ان نشاطر اميركا نفسها موقفها! فهل يعتبر "مجلس البرهان" و حكومة حمدوك الانتقالية حركة حماس و الجهاد منظمات ارهابية؟! 

المكون العسكري لمس قبول شعبي معقول لخطوة التطبيع و يريد ان ينسب لنفسه الفضل باعتبار ان ذلك فتح تم علي يديه! لكن نعرف ان التطبيع ابتدرته "الراحلة" نجوي قدح الدم "المهندسة السودانية و مستشارة رئيس يوغندا، فهي مهندسة لقاء كمبالا و قبل ذلك مهندسة تطبيع العلاقة بين البشير و موسفيني بعد ان أصبح السودان و يوغندا قطرين ليس بينهما حدود دولية! ما يعني انها كانت تعمل ابتداءاً علي ملف التطبيع مع اسرائيل عبر بوابة تطبيع العلاقة بين السودان و يوغندا اولاً، و هي علي كل حال رحلت و دفنت أسرارها معها!

اليوم لا نملك إلا ان ننتظر لنري ماذا يُراد بالسودان و انتقاله الديمقراطي، فبنهاية (عصر ترامب) يمكن ان نقول وداعاً صفقة القرن -تلك الصفقة غير واضحة المعالم- فالرئيس الاميركي الجديد سيحاول بعث الروح في خيار حل الدولتين مجدداً، قد لا ينجح في ذلك و قد ينجح، لكن ذلك علي العموم يعني عودة الامور الي ما كان سائداً و مألوفاً بعد سيادة غير المألوف لأربعة سنوات.. عليه فان خطوة تطبيع السودان لعلاقته باسرائيل الأن تستدعي قراءة جديدة، فهي لا تعني للرئيس الاميركي الجديد ما كانت تعنيه للقديم!

و علي كل حال لم نكن ندري هل ارادت تلك الدول بالسودان "إسرائيل و أميركا و الامارات و السعودية و مصر" خيراً ام يريدون بنا شراً، و هل اجتمعوا علي نفعنا ام الاضرار بنا ام هي علاقة مصالح تنقضي بانقضاء المصالح و تزول بزوالها!!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم تفريغ الجامعات والمعاهد من اي مضمون واضحت الدرجات العلمية مجرد القاب مملكة في غير موضعها...     فاحاديث الرجل لا توحي بشئ في هذا المضمار.. التخصص، كما ان المعلومات المتوافرة في قصاصات الصحف ولقاءات الاذعة لم تفصح عن شئ ايضا!    السيرة الذاتية المتوافرة علي موقعي البرلمان السوداني 'المجلس الوطني' و البرلمان العربي تقول ان البروف-الشيخ حاصل علي بكالريوس العلوم في الفيزياء و ايضا بكالريوس الاداب-علوم سياسية من جامعة الخرطوم! ثم دكتوراة فلسفة العلوم من جامعة كيمبردج. اي شهادتين بكالريوس و شهادة دكتوراة. مامن اشارة لدرجة بروفسير "بروف" والتي يبدو ان زملاءه في السلطة والاعلام هم من منحوه اياها!!    سيرة ذاتية متناقضة وملتبسة تمثل خير عنوان للشخصية التي تمثلها وللادوار السياسية والتنفيذية التي لعبتها!    ابرز ظهور لشخصية الشيخ-البروف كان ابان صراع و مفاصلة الاسلاموين، حينها انحاز البروف لف

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بينها ع

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانتهازيين علي اختلاف مشاربهم ( مؤتمر وطني، و مؤتمر شعبي،اخوان مسلمين، سلفيين، سبدرات، وابوكلابيش، والراحل شدو، اتحاديين الميرغني، و حاتم السر، و الدقير، و احمد بلال، واشراقة سيد، و احزاب امة مسار، و نهار، و مبارك المهدي، وحسن اسماعيل.. الخ ) و غيرهم يحاولون جميعا تصوير الأمر علي انه يعني سقوط البشير لوحده!   البشير لم يسقط وحده، فهو يرمز لعهد باكمله، و يرمز لاسلوب في الحكم و الإدارة وتسيير الشأن العام ( السياسة )، و بسقوطه سقط مجمل ذلك العهد و اسلوب الحكم و السياسة و الادارة..   و سقط ايضا كل من اعانوه او اشتركوا معه و كانوا جزء من نظامه في اي مرحلة من مراحله المقيتة. و حين تقوم مؤسسات العدالة وتنهض لاداء دورها سيتم تحديد المسؤوليات بدقة و بميزانها الصارم و سيتم توضيح ( من فعل ماذا؟ و من تخاذل متي؟ ). البشير لم يحكم وحده حتي وان استبد في اخريات ايامه و سنوات، بل كان له مساعدون و اعوان في ذلك الاستبداد و داعمين لان