التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نحن و الوقت .. نحن و الأرقام

   اصبح من المسلمات لدينا اننا 'معشر السودانيين' لا نقيم وزنا للوقت والزمن ولا نلتزم بالمواعيد واﻵجال الزمنية حتي تلك التي نضربها بمحض اختيارنا! هناك اعتراف اخر علينا مواجهته حتي يكتمل تشخيص حالتنا الحضارية، هو اننا لا نقيم وزنا للأرقام بالمجمل، نهتم بالعبارات الإنشائية اكثر من الأرقام نهتم بصياغة ما نقوله نثرا حقيقة او مجاز او استعارة لكن حين نأتي علي اﻷرقام figures نمر عليها مرور الكرام، نقولها ولا نأبه بها؛ نسمعها ولا نلقي لها كثير اهتمام!
لا نهتم بالأرقام سواء كانت تشير للوقت والتواريخ 'اياما، وشهورا، وسنوات' او حتي مبالغ و اموال او كم مواد وممتلكات!
كثيرا ما تخطئ الصحف في تواريخ اليوم في صدر صفحاتها الأولي، وتخطئ في مبالغ الموازنات و النسب المئوية ولا تكلف نفسها تنويها وتصحيحا واعتذارا في العدد التالي لذلك الذي أخطأت فيه!
من كثرة ما تتكرر اخطاء الصحف او التقارير واخطاء المسؤولين في قمة هرم المسؤولية بخصوص الأرقام اصبحنا لا نراها! ندقق في الكلمات لكننا نعبر فوق الأرقام وكأنها حجر نخشي ان نتعثر فيه!
نذكر هنا أرقام وزارة التعدين حينما تحدثت عن اكتشافات لاحتياطيات الذهب بموجب عقد الشركة الروسية الشهيرة "سيرين" والذي قدرته باﻵف الاطنان قبل ان يتم تذكيرها ان نسبة الذهب في باطن كوكب الارض كله لا تصل هذا الرقم ولم تكلف 'الوزارة' نفسها بيان تصحيح او اعتذار!
   السؤال المهم هنا هو: لماذا لا نهتم بالأرقام وقتا كانت او مبالغ او احصائيات؟من اين ورثنا هذه اللامبالاة حيال الأرقام؟ وكيف نعالج هذا الخلل وهذه العلة التي تبلغ درجة الخطيئة؟!
   علاج هذه العلل هو باب الخروج مما نحن فيه من تردي و انهيار وفوضي.. الباب الوحيد ايضا؛
عدم الاهتمام بالوقت ليس خصلة أصيلة كما يظن البعض وليست نتاج جين وراثي كما يتوهم الواهمون، هو سلوك والسلوك اياً كان يكتسب اكتساباً ثم يصبح عادة بالتكرار ثم تصبح العادة سمة ملازمة و طبع و قد يصبح الطبع صفة لموصوف و قد تصبح الصفة لقبا واسم وقد يكون الاسم مطابقاً للمسمي 'اسماً علي مسمي'! حينها يكون الفكاك من الإسم صعباً كما في حالنا والوقت.
  اهمالنا للوقت ليس اصيلاً بدليل انه كان لنا فيما كان "حينما كنا" كان لنا تقويم زماني خاص بنا هو تقويم "العين" بكسر العين وتشديد الياء المفتوحة 'جمع عينة؛ بكسر العين وتسكين الياء" وهو تقويم فريد من حيث انه لا شمسي ولا قمري انما يرتبط بحركة المجرة "النجوم والكواكب" كلها خصوصا "الثريا" وهي مجموعة من النجوم والكواكب تتألق في وقت معين؛ كما انه من نسختين او اسلوبين مختلفين في حساب الايام 'حساب الاحامدة، والصباغ' عموما تنقسم السنة في هذا التقويم الي 28 عينة كل منها 13 يوما عدا عينة واحدة 'الجبهة النداية' 14 يوما، ولها قيمة كبيرة في معرفة مواقيت الزراعة والرعي وهي كانت ولاتزال اهم مصالح الحياة هنا. لكن مع الأسف تم تجاهل هذا التقويم 'الشعبي السوداني' من قبل جهاز الحكم!
هذا علاوة علي ان الناس هنا يهتمون ايضا بمواقيت اليوم واجزاءه لارتباطها بعبادات الناس وصلواتهم.. الخ
   لكن اتي علي الناس هنا حين من الدهر لم يعد فيه للوقت والمواعيد قيمة؛ فما يمكن ان يتم في دقائق قد يستغرق تمامه شهور، والدولة هي من علمت الناس المماحكة عبر اهدار وقتهم، موظفي الدولة اصبحوا يماطلون طبعا بغرض الحصول علي رشي، بعض الأعمال التي لا تستغرق وقت ولا جهد يتظاهرون بأنهما تستغرق ليحصلوا علي مقابل غير مستحق علي عمل لم يقوموا به! اذا فان اهدار الوقت كان أول ابواب الفساد 'سرقة الزمن'!
   ان اعادة الاعتبار لقيمة الزمن عند الناس هنا يقتضي توضيح الحد الاقصي من الوقت الذي تستغرقه كل معاملة و اعطاء المتعامل الحق في تقديم شكوي حال ان تأخرت معاملته عن الحد الأقصي وتفعيل المساءلة والجزاءات.
ايقاف الفساد في الوقت واهدار الزمن هو المدخل الصحيح لمحاربة الفساد الذي ضرب كل شئ..
   و اللامبالاة بأرقام التواريخ و الكميات و المبالغ و النسب والاحصاءات ايضاً ليست طبعاً اصيلاً بل نتيجة الأكاذيب والتضليل التي ظل الناس  يتعرضون لها من قبل الإعلام والأجهزة الرسمية عمداً و طيلة العقود الثلاث السابقة! فكما تمت الإشارة فان اجهزة الدولة تكذب هنا بشأن المبالغ والمقادير دون ان تطرف لها عين، ظلت لعقود تكذب و تتحري الكذب لذا ولحماية انفسهم من هذا التضليل اصبح الناس لا يعيرون تلك الأرقام بالاً حتي فقدوا الحساسية الضرورية حيال الأرقام! و نقول ضرورية لأن لا تقدم علمي او تنموي يمكن ان يحدث دون أرقام صحيحة و موثوقة.
كذب المسؤولين و غياب المساءلة و المحاسبة و العقاب هو المسؤول بالأساس عن فقدان الحساسية بالأرقام، و يوم ان تتم مساءلة و حساب المتجاوزين 'والحساب ولد' ستعود تلك الحساسية والاهمية..
في ثقافتنا وتربيتنا لامبالاة حيال المبالغ مهدت لقبول بعض الكذب الرسمي؛ ولكن لا يبرر ذلك اخطاء الجهاز الرسمي، في ثقافتنا نقول: انفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، و "المال ما بهمه ان كتر وان راح" و ال "في جيبه ما حقه"!! لكن تلك المقولات كانت تحض بالأساس علي الكرم او التفاخر او اﻹسراف والشوفينية، و لا تحض علي اهمال كم المبالغ او المقادير، هي ليست مسؤولة عن ضياع الحساسية ضد الارقام وان كانت تمهد لسلوك لا اقتصادي ويجب ايضا محاربتها و تغيير هذه الثقافة بالتزامن مع اقرار 'دولة الأرقام' دولة المساءلة والمحاسبة والشفافية!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...