مثلما أطلقت الجماهير
شعاراتها، أطلقت وصف البلطجية على الفئات والجماعات المستبدة والمستفيدة من
استمرار حكم الاستبداد.. والبلطجية وصف صادق ومعبر يمكن لنا أن نتوسع فيه لنصف تلك
الأنظمة والحكومات الفاسدة بأنها حكومات بلطجية (وبلاطجة في اليمن، وشبيحة في
سوريا).
هي حكومات بلطجية لأنها
أول من يخرق القوانين، بل ووصل بها النزق إلى درجة سن التشريعات وتفصيل القوانين
بحيث تتمكن من خرقها والتحايل والالتفاف عليها، بلطجية لأنها ليست حكومات حكم
القانون بل هي أشبه بعصابات الجريمة المنظمة، فلتلك العصابات أيضاً قوانين وأعراف
خاصة بها ومواثيق (شرفها) Code
of Ethics، وهي أعراف لا تحقق العدل وإنما فقط تنظم العلاقة
فيما بين اللصوص، وقوانينهم تحمي اللصوص من أن ينكشف أمرهم ويذيع سرهم.
هي حكومات بلطجية لأنها
ترتكب التزوير، وليس التزوير الذي يزيف إرادة فرد ويهدر حقوقه، إنما يزيف إرادة
شعب بكامله، أنه تزوير الانتخابات.
هي حكومات بلطجية، لأن
أعوانها وبطانتها يقتلون وينهبون ويغتصبون دون أن يطرف لها جفن أو أن يحرك ذلك
فيها ساكناً.
والسؤال المهم الذي
ينبغي طرحه والإجابة عليه هو، لماذا سقطت أنظمة البلطجية تلك بهذه السرعة، وهي
التي كتمت الأنفاس لأربعة عقود في بعض الأقطار، ولعقدين على الأقل في أخرى؟!!
لقد سقطت أنظمة البلطجية
الآن، لأنها اطمأنت لما اتخذته من تدابير وإجراءات ومؤامرات تقود لإصابة شعوبها
باليأس ثم الخنوع أو الخوف، لقد رأت الأنظمة علامات ذلك الخنوع أكثر من مرة وفي
أكثر من مناسبة، فهي تفعل الأفاعيل وترتكب الكبائر والجماهير ساكنة وحائرة بل
ومستسلمة.
وسقطت، لأنها سدت كل
منافذ الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعلومة، فما من دابة تدب في تلك
الساحات إلا وعند الأنظمة علمها وكان ذلك برضاها، وكانت حركة الشعوب حتمية، لأن
الحراك الجماهيري كما السيل، يمكنك أن تسد مجراه وتقيم السدود كما تشتهي لكنك لا
تملك أن تمنعه من تغيير مجراه أو من التسرب أو حتى من اقتلاع السدود.
وعندما سدت الأنظمة
قنوات الحراك الاجتماعي والسياسي والإعلامي التقليدي، أخذت الجماهير تبحث عن قنوات
أخرى، ولكونها بدأت للتو كانت تلك القنوات هامشية وصغيرة، فلم تأبه لها الأنظمة
التي بدأت تركن بدورها لحياة الدعة والخمول، ولتقطف ثمار هيمنتها ولتقتسم غنائم
الاستبعاد وتركة الشعوب.
بدأت حركة الجماهير في
تلك القنوات غير المنظورة تزداد، أخذت تناضل عبر الاحتجاج بالنكتة، وعبر التنفيس بين الأهل والأصدقاء والأقارب
والزملاء والجيران، ثم حتى مع وبين الغرباء، فكلهم شركاء في كونهم ضحايا للقمع
والاضطهاد.
لقد وجدت حركة الجماهير
الباحثة عن فضاءات حرة ضالتها في سماء التكنولوجيا المفتوح، فالفضائيات تعددت
وتعددت مآربها، والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي الآمن فيه تزايدت، وتلك ساحات
لا قبل لأمناء الشرطة السرية وجواسيس المخابرات بها، ولا خبرة لهم في التعامل معها
بل وما من سبيل لسدها.
ركن المكلفين بحراسة
النظام المستبد إلى أن تلك القنوات الجديدة لا خوف منها طالما أنها لا تقترب من
قصور الحاكم ولا تغض مضاجعه، بل ولا تقترب من الشوارع المؤدية للمخازن التي يكدس
فيها متاعه وبنادقه.
لكن، ومع تكاثف الرتابة
القاتلة والغباء والاستغباء في قنوات السياسة والإعلام التقليدي، تزايدت هجرة
الجماهير الباحثة عن ما هو جديد ومختلف وعما هو حقيقي وصادق وما هو محترم لذواتها،
فتزايدت تلك الهجرة إلى القنوات الحديثة، وطورت الجماهير تلك القنوات من كونها
مجرد أدوات للتسلية إلى أدوات للتوعية الفكرية والسياسية والثقافي، ثم إلى قنوات
للتنظيم والاتصال والتعبئة.
لأن تلك القنوات ضيقة
بطبيعتها حدث الاختناق سريعاً، فخرجت الجماهير باحتجاجها من عوالم الإنترنت
الافتراضية إلى عالم الواقع، وهنا حدث المشهد المدهش والمفارقة المذهلة، فمن عاش
في العالم الافتراضي لبرهة يعرف تماماً ما يجري على الأرض وفي الواقع، أما من عاش
في الواقع فقط فلا يدري بما يدور على نطاق واسع في العوالم الافتراضية وقد كانت
المفارقة لصالح الجماهير، المحتجة، وعجزت الوسائل التقليدية والتعامل الأمني، في
التعاطي مع مطالب الجماهير وحركتها.
بعبارات أخرى، إن ما
حدث في السنوات الأخيرة هو أن المجتمع بدأ يتطور وينمو ويحدث رؤاه وقيمه في مساحات
ومسارات وفضاءات غير منظورة للعديد من الجهات على رأسها النخب السياسية والأمنية
النافذة والمتحكمة.
وكانت ثمرة ذلك التطور
والنمو، هي أن وجد المجتمع نفسه لأول مرة منذ عهود سحيقة، بل ومنذ قرون، متقدماً
على حكومته وعلى الدولة.
وأن يكون المجتمع متقدم
على الدولة فهذا هو الوضع الطبيعي لكل أمة حية.. فالأصل أن يكون المجتمع متقدم على
أجهزة الحكم وعلى الحكومة أن تسعى وتسخر امكاناتها وتجتهد في اللحاق بالمجتمع،
وكلما تقدمت خطوة تقدم المجتمع خطوتان... وهنا تكون الحكومة عبر أجهزتها وأدوات
الدولة مسخرة لخدمة المجتمع، ولن تكفي أدوات الحكومة (الدستور والقوانين، والأعراف
الإدارية المستقرة) وآلياتها لتلبية كل احتياجات المجتمع، لذا فإن المجتمع يسعى
عبر آلياته الخاصة ووسائله وأدواته الأخرى لتلبية باقي رغباته التي يمكن وضعها دون
مستوى الضروريات الوطنية الملحة، والتي بطبيعة الحال تعجز الحكومة عن الوفاء بها،
ومن أدوات المجتمع ووسائله تلك، منظماته المدنية وصحافته وإعلامه المستقل والخاص،
ومنتدياته...الخ، وكل تلك الأدوات والأجهزة تعمل في ظل الأوضاع النموذجية باتساق
تام مع أجهزة الحكم، وتحكم كلها بإطار القانون العام وأجهزته العامة من برلمان
وقضاء وخدمة مدنية...الخ، وتتكامل معاً (أجهزة الحكم، وأجهزة المجتمع) لتشكل ملامح
وسمات الدولة.
ولقد سعت الأنظمة
العربية طيلة تلك العقود لجعل المجتمع متخلف عنها حتى تقوده هي وتتحكم في رغباته
وتحدد طموحاته (في سوريا يقولون؛ ويقول دستورهم: حزب البعث هو الحزب القائد للدولة
والمجتمع!!)، ولذا بدأت هذه الأنظمة تتهاوى لأنها لا تعلم كيف تتعاطى مع الأمور في
ظل الوضع الجديد وقد وجدت المجتمع لأول مرة أمامها، وجماهير الشعب لا تنقاد
كالخيول من لجامها كما كانت سابقاً.
كان عليها –الحكومات
العربية- أن تهرع خلف مجتمعاتها، لتخدمها وتلبي حاجاتها وتكون رهن أمرها، وهي لم
تعتد ذلك ولا تستطيع، لأنها جبلت على حياة الخمول التي تكون لها فيها سلطة الأمر
والنهي فقط، دون أن تقدم بخلاف ذلك عملاً أو تبذل جهداً.
والحال كذلك، فإننا
بإزاء مرحلة جديدة، فالمجتمعات التي صححت الوضع وتقدمت لن تعود ثانية للوراء. ولن
تعود لحيواتها السرية بعد أن خرجت للشمس والريح والضياء، فعلى الأنظمة جديدها
وقديمها أن تتنبه لهذا الواقع الجديد، وإلا فلا عاصم لها من السقوط.
أيضاً لفهم ما حدث وما
يحدث، ثمة سؤال ثان ينبغي طرحه هنا، وهو هل ثورات الشباب هذه تمثل وجهاً من أوجه
صراع الأجيال؟!
الإجابة عندنا بالتأكيد
هي النفي، لأن النظم المنهارة أو التي إلى انهيار لم تكن تعبر عن جيل، وإنما تعبر
عن مصالح فئات محدودة نجحت في فرض إرادتها على ذلك الجيل وعلى أجيال بعده، ويصدق
هنا الاستشهاد بمقولة المناضل التونسي الذي اشتهر بـ"أحمد هرمنا" وهو
يمثل جيل بأكمله ، جيل هرم بانتظار لحظتهالتاريخية ؛ لحظته التي يرى فيها الأمور
في وضعها الصحيح.. يرى اللصوص والمجرمين في السجون لا القصور، ويرى الشرفاء
والكرماء ينالون التقدير والاحترام ولا يذلون في المعتقلات وأقسام الشرطة..
هرم جيل وأجيال بانتظار
حياة صحيحة لا يسيطر فيها الأغبياء والانتهازيين والأدعياء ويهمش فيها أصحاب
المواهب والمعرفة والدراية المخلصين لشعبهم ولقيمه.. حياة يكون فيها الحاكم مقيد
بمبادئ سيادة الشعب وحكم القانون، ويكون الشعب فيها حراً يختار حياته وحكامه وفقاً
لإرادته الحرة.
ما حدث ليس صراع أجيال،
وإنما يصدق وصفه بأنه فصل من فصول الصراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشر، ولأن
سنة الحياة هي التغيير لم تكن مصادفة أن
يكون معسكر الخير هذا مؤلف من أغلبية يمثلها الجيل الجديد الذي يدفع نحو التقدم،
الجيل الجديد المسلح بسلاح جديد يجيد استخدامه هو سلاح المعرفة الحديثة، ولم تكن
مصادفة أيضاً أن يكون معسكر الشر اغلب جنده من العجائز الطاعنين البالغين من العمر
أرذله.
تعليقات
إرسال تعليق