*بمشاركة/ محمد الفكي سليمان
الدولة هي كيان – سياسي قانوني – ذو سلطة
معترف بها في رقعة جغرافية محددة ، ويمارس تلك السلطة علي مجموع بشري معين.
كلمة دولة في التراث
الاسلامي العربي غير واضحة إذ ان الدولة كانت رديف لما يسمي الامبراطورية في الغرب
؛ فالدولة الاموية والعباسية وحتي الفاطمية كانت علي مساحة جغرافية كبيرة جداً
تختلف الشعوب والقوميات التي تستظل بمظلتها وعند اطراف هذه الدولة تضعف الروابط
التي لا تتجاوز في بعض الاحيان الدعاء للخليفة الحاكم في دمشق او بغداد او
القاهرة.
وفي ذلك يقول سعد الدين ابراهيم "
باستثناء ابن خلدون ، كانت كتابات المفكرين المسلمين تدور حول الجماعة السياسية
وليس حول الدولة ..كما كانت كتابات الفقهاء في الشريعة مثل الماوردي وابن تيمية
تدور حول الحكومة أو الشروط التي ينبغي توافرها في الحاكم الصالح الذي تحق أو تجب
له الطاعة ، أي شروط الإمامة او الولاية .وفريق آخر ،مثل الفارابي وابن المقفع
ونظام الملك ..ركز جهده واهتمامه علي اسداء النصح للحاكم او الآمير ".ويمكننا
الزعم ان العرب والمسلمون قصدوا بالدولة الحقبة الزمنية التي سيطرت فيها جماعة
سياسية معينة علي مقاليد الحكم وانعقد لها لواء الامر والنهي والحل والعقد ..وان
مصطلح الدولة أُشتق من مفهوم وحالة التداول التي تحدث بين الجماعات والافراد حيال
النفوذ والموارد (الايام دول) .
في دراسته لنموذج الدولة العربية يأخذ وضاح
شرارة بالنموذج النابليوني الفرنسي والنموذج الميترنخي النمساوي، ويقرأ وضاح شرارة
في هذا النموذج للدولة سمات وملامح هيكلية محددة منها اقتصار التكوين البرجوازي
للدولة علي فئة او قومية واحدة دون غيرها ومضاعفة الاستغلال وتربع الدولة في
الخواء الاجتماعي الذي عملت علي خلقه في المقام الاول، وتلازم الصراعات الداخلية
مع الصراعات الخارجية. كما ينجم عن هذا النمط تفكك ثقافي عميق، وعند وضاح شرارة
الدولة ليست منسلخة عن المجتمع المدني فحسب بل
هي عازلة له ومتسلطة عليه .
وتعتبر الدول العربية الموجودة حاليا
نتيجة مباشرة للإستعمار الأوربي علي المنطقة وعندما نقول ذلك لا نقصد ان الاستعمار
هو الذي جسدها أو أوجدها ولكن الي حد كبير رسم حدودها بل ان المشرق العربي تدخل
واعاد تركيب أقاليم محددة لتصبح دول مثل لبنان وأخذ اقاليم أخري ليصنع منها الاردن
واستبعد اقليم الاسكندرونة من سوريا الكبري، كما ان حدود الامارات الخليجية كلها
رسمت في بداية القرن المنصرم بواسطة اتفاقيات بين الأسر أشرف عليها الاستعمار
الغربي، كما رسم الحدود بين مصر والسودان، واعاد توحيد الاقاليم الثلاث "
طرابلس وبرقة و فزان " وأعطاها الاسم السابق الذي كانت تعرف به والذي استمر
معها حتي الأن (ليبيا).
قامت الدول العربية حول أسرة او قبيلة أو
طائفة وتوسعت هذه المجموعات بعقد تحالفات اوسع الامر الذي حافظ علي وجودها
واستمراريتها ،وفي حالة الخليج ساهمت الاموال الكبيرة الناتجة عن النفط في تثبيت
سلطة الأسر الحاكمة فاستطاعت هذه الاسر بفضل الاموال من توسيع حلفها مع قبائل ببذل
الاموال والمناصب وإتاحة التجارة وتملك الاراضي القيمة، وبذلك استطاعت تلك الاسر من
الانفراد بالسلطة من غير منازعة بل واستغنت عن المواطن؛ فهي لا تحتاج له في الضرائب لأنها تملك الاموال الطائلة ولا
تحتاجه في الجيش والدفاع لأن عدد المواطنيين في معظم تلك البلدان لا يسمح بتكوين
جيوش قوية لذلك عمدت مباشرة لعقد تحالفات مع دول كبري لتوفر الحماية، كما ان لوجود
العمالة الاجنبية ذات الاجور المنخفضة توفر للحكام عمالة تحت الطلب ..عمالة مقيدة
لا تستطيع عقد نقابات او رفع مطالب لذلك تفرغ مواطنو تلك الدول للإستماع وإقتسام
المنافع من ريع البترول حسب الأنصبة التي حددتها الحكومة.
ولطبيعة تكوين الدولة العربية فانها تعاني
من عدة إشكالات مثل الهوية ، الاندماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الشرعية، واغلبية
الدول العربية بدأت عند الاستقلال بديمقراطيات علي النمط الغربي ومثل ذلك ما يسميه
غسان سلامه بــ" اللحظة الليبرالية " في الوطن العربي، ساعد علي ذلك ان
الصفوة السياسية النشطة التي قادت النضال ضد الاستعمار من اجل الاستقلال ؛كانت من
الطبقة الوسطي الحديثة ذات التعليم العصري والمتأثرة بالفكر الليبرالي والقومي
الاوروبي وحاولت تكوين احزاب علي النمط الغربي "كحزب الوفد المصري والاستقلال
المغربي والدستوري في تونس وحزبي الامة والاتحادي في السودان ،وما الي ذلك".
و لأن هذه الاحزاب كانت احزاب جماهيرية كبري وقامت بدور حاسم في قيادة الكفاح من
اجل الاستقلال، فقد ارتضت النخب الحاكمة التقليدية النظام الملكي ذي الطابع
والصيغة الليبرالية التعددية عند الاستقلال؛ وبتعبير آخر كسبت تلك الاحزاب حقها في
المشاركة السياسية والديمقراطية بفضل اسهامها في تحقيق الاستقلال، لقد كانت شريكة
حقيقية في إضفاء الشرعية علي مجمل نظام الحكم في اقطارها ،عند الاستقلال.
لكن اجهضت اللحظة الليبرالية بطريقتين
رئيسيتين في الاقطار التي شهدت لحظتها الاولي بعد الاستقلال :-
الطريقة الاولي : من خلال الانقلابات والثورات التي اقتلعت
النظام القديم واحلت محله انظمة حكم تعتمد علي مجالس ثورية او حزب واحد.
الطريقة الثانية : كانت تقويض نظام الحكم صراحة او ضمنا دون تغيير
نظام الحكم أو رموزه.
وقد لعبت الانتلجنسيا المدنية والعسكرية
دورا مهما في تقويض التعددية وان الايدولوجيا التي اعتمدوها بعد الوصول الي السلطة
شعبوية ،تقدمية في توجهها .. وقد ركزت علي المعاني والشعارات التي تلبي احتياجات
اجتماعية ونفسية لدي الطبقة الوسطي وما دونها من طبقات ؛وكانت اهم مفردات الخطاب
السياسي في ذلك الوقت :
1/ محاربة الفساد في
الادارة ونظام الحكم.
2/ الوحدة الوطنية.
3/ العدالة الاجتماعية
وانصاف الكادحين.
4/ المحافظة علي
الاستقلال الوطني وتكريسه.
5/ التنمية الاقتصادسة
الجادة والسريعة.
وفي اقطار مشرقية اضيفت الي هذة المفردات
مسألتا الوحدة العربية وتحرير فلسطين.
لكن بمرور الوقت حدثت
التطورات التالية لنظام حكم النخب العسكرية – المدنية :
· تركزت السلطة تدريجيا
في يد شخص واحد أوحد، أي ان الدولة القطرية التي بدأت مشوارها الوطني بلحظة
ليبرالية تعددية تحولت وارتدت انقلابيا الي التنظيم السياسي الواحد، ثم تدريجيا
الي حكم الفرد الواحد فعليا وإن كان مع بقاء الاطر التنظيمية الجماعية (شكليا
فقط).
· تحول الجناح المدني في
النخبة الحاكمة الجديدة من فريق مسيس الي نخبة بروقراطية وتكنوقراطية لاتشارك في
اتخاذ القرار بقدر ما تساعد في تنفيذ مشيئة الحاكم.
· تقوي جهاز الامن
الداخلي وتعددت ازرعه ووظائفه بحيث تجاوز وظيفة حفظ الامن والنظام الي وظائف القمع
والاهاب وخلق الرأي العام.بل ومراقبة الجهاز التنفيذي المدني والرقابي (البرلمان)
ذاته.
· تقوي الجهاز الاعلامي
وتحول تدريجيا من الاعلام الي التلقين الايدولوجي الي الدعاية للحزب ثم تأليه
القائد.
وفي الاوقات التي كان
فيها هناك انجازات تنموية وقضايا وطنية ؛ تمتعت الانظمة بما يشبه القبول من
الاغلبية العظمي ، وما يشبه الاذعان او المقاومة والمعارضة الصامتة من قبل الاقلية
المسيسة التي حرمت من فرص المشاركة في الحقل السياسي ، وحتي مع تعثر المشاريع
التنموية وبداية ظهور انتكاسات خاصة في مجالي العسكرية (الحروب) والسياسة الخارجية
؛يتحول قبول الاغلبية الي اذعان ومعارضة صامتة ويتحول اذعان الاقلية الي معارضة
علنية او حتي عنيفة.
عندما احرق الشاب محمد البوعزيزي جسده احتجاجا
علي اوضاعه في تونس كان يحتج علي وضعه الاقتصادي المزري وبالتالي علي علي إستئثار
نخبة محدودة بخيرات البلاد وتجسدت تلك النخبة في عائلات كانت تحيط بالرئيس بن علي،
كما انه احتج على النظام التعليمي العربي البائس ومخرجاته، إلا ان احتجاجه الاكبر
كان علي وضع المواطن العربي وكرامته وحقوقه ..ففي كل تلك الدول يستطيع
"الشرطي" ان يصفع المواطن دون تردد او تفكير في العواقب، بل هذا أمر
عادي للحد البعيد حيث يغيب القانون وتحضر القوة، وممارسات البوليس وقوي الامن كانت
المحرك الاساسي لتطفو كل الاسئلة المتعلقة بالنظام، ومناسبة تجمع مئات الاشخاص
للتظاهر في عيد الشرطة ضد نظام مبارك يعد رمزية واضحة ورأياً جهير للمواطن
(العربي) تجاه المؤسسة الامنية التي تحولت الي مؤسسة قمعية من طراز بالي؛ بل كما
انها تخلت عن مهامها الاساسية أي حفظ امن المواطن؛ الي حفظ امن الحاكم .
ان
النظام العربي مرتبط مع بعضه بحلقة واحدة خصوصاً في الاحداث التاريخية، فمعظم
الدول العربية وقعت تحت السيطرة الاوروبية في فترات متقاربة ثم حصلت علي سيادتها في
عقد واحد (مع استثناءات طفيفة)، كما انها استبدلت الصيغة السياسية لنظام الحكم في
وقت واحد .
إن
تتابع الثورة في الدول العربية مرده لأعمار الانظمة المتقاربة، ولمرورها بذات
المراحل واستنادها علي ذات الخطاب الذي انكشف منذ زمن وسقط ..لكن كانت الانظمة
نفسها قد تخلت عنه واستندت الي اجهزتها واموالها واتبعت سياسة متعددة الاوجه من
اجل البقاء الذي ظل قضيتها الاولي والاخيرة من بين مجموعة من القضايا رفعت يوم وأد
اللحظة الليبرالية العربية.
ان الثورة التي عرفت بالربيع العربي فجرت
طاقات الملايين من ابناء البلاد العربية بعد يأس من التغيير، وأحيت الامال ووحدت
الجميع ضد الطغاة الذين لم يحكموا استناداً الي اغلبية كما انهم لم يسعوا لتجديد
شرعيتهم عبر عقد تحالفات حقيقية مع قوي المجتمع الحية بل ركنوا الي انتخاباتهم
المزيفة وإعلامهم الكذوب وعملوا علي حماية واستدامة هذه الاوضاع الخربة باجهزة
الامن والمليشيات الحزبية .
عملت جميع الاحزاب والطوائف والاثنيات جنباً
الي جنب حاملة شعار الشعب يريد اسقاط النظام ..وهو شعار حوي ملخص مطالب الشعوب
التي رفعته، لكن مع سقوط الانظمة تراجعت وحدة الشعوب وعادت حالة الانقسام
الاجتماعي الديني والطائفي والاثني والحزبي خصوصا وان الفترة (ما بعد سقوط الانظمة)
تؤسس لوضع جديد وحقبة جديدة .. فتدافعت بعض المجموعات تريد كتابة دستور جديد تتثيت
فيه ملامح الدول وفق رؤية تلك المجموعات، وعليه فان مشكلة مثل الهوية والانقسام
الاجتماعي وحقوق الاقليات وروح التشريع أطلت قوية لتقول ان الروح التي سادت ايام
الثورة قد ولت؛ وان روح جديدة ستسود مرحلة تشكيل الدولة ونظام الحكم الجديدين، إلا
ان ما يبشر بامال كبيرة هو انخراط الشعوب التي تخلصت من القهر، انخراطها أقول، في
العمل السياسي وارتضائها الديمقراطية الخيار الامثل والمطلب الأكيد بعد سنوات من
جدال عميق حينا وعقيم أحيانا حول ضرورتها وأصلحيتها أو تقديم نماذج حكم ونظم بديلة
لها.
وثمة حقائق علي الجميع (خصوصا الجيل الجديد
الذي انخرط مؤخراً في الشأن العام والسياسي) ان يضعوها في اعتبارهم منها :
· ان الدولة بطبيعتها
تحتاج لنظام محكم خالي من الثغرات التي تغري بالاجتهاد او التحايل وانها تعتمد علي
النظم القانونية والادارية الواضحة لا النوايا الحسنة فقط ..وان الديمقراطية تقتضي
وجود مؤسسات (تنظيمات واحزاب) ديمقراطية، علي الاقل في مستوي شغل الوظائف والمناصب
الحزبية والترقي في هياكلها.
· ان الوقت قد لايسمح
للقوي المتنافسة لخلافة الانظمة المنهارة علي تقديم براهين واثباتات حول مدي
التزامها بالقيم الديمقراطية، لكن يبقي التزام تلك القوي بالديمقراطية رهيناً بمدي
استيعابها وفهمها لما حدث .. فان كانت تلك القوي تريد ان يكون ادائها في ادارة
شئون الدولة والمجتمع الجديد جيداً فليس امامها من سبيل سوي الالتزام بمعايير
العملية الديمقراطية ابتداءا من الحريات الشخصية وانتهاءا بشفافية جهاز الدولة،
اما ان ارادت تجريب نهج جديد فانها ستضع نفسها وتجربتها علي اولي عتبات الفشل، والجماهير
التي خرجت مطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ولا شئ غير ذلك ستكون
حاضرة دائماً .
· ان كل الشعوب التي ثارت
عرفت في السابق تطبيق سياسة شد الاحزمة علي بطون؛ وللأسف ينبغي علي معظم الشعوب
التي ثارت ان تواصل في تطبيق تلك السياسة ..وذلك مع فارق مهم هو ان الانظمة
القمعية البائدة طبقت تلك السياسة علي شعوبها وسارت بها في الاتجاه الخاطئ ؛اي
الاتجاه الذي لا يجلب الا مزيداً من الاحزمة لشدها علي البطون؛ بينما من الان
وصاعداً ينبغي ان تسير الشعوب وقيادتها الجديدة مطبقة لهذه السياسة حسب أصولها
وبلا إستثناء أو تمييز بين حاكم ومحكوم، (الخبر السار) هو أن ثمار هذه السياسة
ستكون واضحة ومنظورة في ظل نظام محاسبة وشفافية، وان الاوضاع المعيشية والاقتصادية
ستسير من حسن الي أحسن وصولاً لمراحل متقدمة من النمو و الرفاه العام .
تعليقات
إرسال تعليق