التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أبعاد ثورة الربيع ومآلاتها



لا شك أن نجاح الثورة في مصر وتونس (على الأقل في تحقيق مطلب الشعب الأول.. إسقاط الرئيس /الرمز)، يؤشر لمرحلة جديدة سياسياً واجتماعياً ستشهدها المنطقة العربية في مقبل الأيام والسنوات.
وإذا اكتمل نجاح الثورة بتأسيس أنظمة ديمقراطية، والتوصل لصيغة جديدة للحياة السياسية في البلدين بما يؤدي إلى الاستقرار وإلى حياة سياسية طبيعة ونظام اجتماعي صحي وصحيح في مصر وتونس وبقية الأقطار.. فإن ذلك سيكون بمثابة نهاية عهد (البلطجية)، وبداية لعهد جديد.. عهد حكم سيادة الشعب، وحكم القانون.
وبتكامل كل ذلك ستزول وتنتهي العديد من الخصائص والمظاهر التي طبعت الحياة العامة في المرحلة الماضية، وستسقط العديد من أصنام الفكر والسياسة التي عبدت فيها، وستتلاشى كذلك العديد من المسلمات والأطروحات والنظريات.. ومن أبرز المسلمات والأطروحات والأصنام التي ستتلاشى وتسقط:
1/ نهاية حقبة الضباط الأحرار:
وفي الواقع مر وقت طويل منذ أن سمعنا بآخر انقلاب عسكري وآخر بيان سياسي.. وفيما عدا حالات نادرة في موريتانيا والسودان كان الوضع العام هو استقرار الأوضاع على ما هي عليه.. ويعزى ذلك الاستقرار، والذي هو إلى الجمود أقرب، إلى الفساد والتخبط الذي ولغت فيه أنظمة انقلابات (ثورات) الضباط الأحرار، وهذا دفع القوى الشعبية إلى التروي وعدم الانخداع ببريق شعارات الانقلابيين أو الانسياق وراء حماستهم واندفاعهم غير المستند إلى تجربة عملية وغير المتصل بالواقع السياسي والاجتماعي.
وخروج الملايين الآن إلى شوارع المدن والبلدان العربية الآن، عني ويعني بكل وضوح أن الإصلاح السياسي والحريات الديمقراطية أضحت خياراً لا بديل عنه ولا مفر منه، وبذا تكون حقبة الثورات العسكرية وانقلابات الضباط الأحرار التي دشنتها حركة 23 يوليو 1952م المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، وسلسلة الحركات الانقلابية التي تبعتها في سائر الأقطار العربية (عدا دول الخليج ومملكة الأردن والمملكة المغربية التي نجت من عواصف الانقلابات القومية العسكرية) قد أذنت شمسها بالمغيب.
2/ نهاية حقبة حكم الحزب الواحد:  
وحكم الحزب الواحد يمثل إحدى ثمار تجربة انقلابات الضباط الأحرار، لكونها إحدى مراحل تطور الحكم العسكري، فكل مجموعة انقلابية تصل إلى السلطة تكتشف بعد سنوات أو حتى أشهر سذاجة أفكارها وشعاراتها وتكتشف عمق ومدى تعقيد الواقع، فتلجأ إلى التحالف مع بعض المدنيين لإضفاء مسحة شرعية على حكمهم.
وفي الغالب تستمر تجربة الحزب الواحد لعدة عقود، ويتضح بجلاء بعدها أن الأفق يضيق في وجه الجماعة العسكرية الحاكمة وحلفائها، ويتضح لهم أن الأمور ليست على ما يرام (عكس ما تقوله التقارير الأمنية)، فيضطر النظام إلى ابتداع شكل من التعددية الصورية، بحيث يصبح النظام (الحزب الواحد) فيها هو اللاعب الرئيسي المسيطر على المسرح السياسي، ويتحول من الحزب الواحد إلى الحزب الحاكم، بينما ما حوله من أحزاب معظمه مصطنع لا يريد أو لا يقوى على منافسة الحزب الحاكم.
إن حكم المجالس العسكرية، ثم الحزب الواحد، ثم الحزب الحاكم تمثل كلها مراحل تغييب لإرادة الشعوب، ومصادرة للرأي الآخر، والصوت الآخر، والوجه الآخر، وتغييب لفئات وشرائح اجتماعية عديدة تمثل قطاعاً عريضاً من الطبقتين الوسطى والفقيرة.
ونجاح الثورات العربية يعني بداية عصر فلسفة فرد واحد صوت واحد، عصر الجماهير الحقيقي الذي يتساوى فيه كل المواطنين بغض النظر عن الوضع الاقتصادي أو الوضع الاجتماعي أو الانتماء الديني أو العرقي أو السياسي. 


3/ نهاية عصر الإرهاب الأصولي:
إن تنامي وصعود جماعات الإرهاب الأصولي والسلفي منذ ستينات القرن الماضي، يمثل في الواقع ردة فعل وعرض جانبي لمرض رئيسي هو قمع وعنف واستبداد الحكومات.. وبمرور الوقت أضحت الصلة بين تلك الجماعات والأنظمة الحاكمة هي صلة اعتماد تبادلي، كل الطرفين يحاول أن يستمد مبرر وجوده وشرعيته بوجود الآخر، ويبرر أفعاله بأنها رد فعل على ما يقوم به الجانب الآخر.
بل وتخطت تلك الصلة هذا الحد ووصلت مراحل دعمت فيه الأنظمة الجماعات (وإن كان ذلك من طرف خفي) في مناسبات عديدة ابتداءاً من دعمها بحجة مقاومة الاحتلال الشيوعي لأفغانستان إلى تغذيتها لمقاومة الفكر الشيوعي أو الليبرالي.
لذا وبسقوط أنظمة القمع والاستبداد تفقد الجماعات الأصولية دعامة مهمة تستند عليها وتتلاشى مبررات وجودها.. وليس متوقعاً بطبيعة الحال أن تزول تلك الحركات ويزول فكرها وأدبياتها تلقائياً وسريعاً بزوال المؤثر –الأنظمة- الذي أوجدها، ومنحها المبرر الأخلاقي للاستمرار ولارتكاب فظائعها، فهي ستقاوم من أجل البقاء (تماماً كما قاومت أنظمة الاستبداد للبقاء) وكما في علم الأحياء فإن المقاومة من أجل البقاء في ساحات السياسة والاجتماع هو حق طبيعي على هذا الكوكب، وهو حق مكفول لأبسط وأحقر الكائنات.
ربما كانت مصادفة أن يقتل أسامة بن لادن على أيدي جنود القوات الأمريكية والتي حدثت بباكستان أوائل شهر يونيو 2011م، وذلك قبل أن يجد الوقت الكافي ليوائم فكره وفكر القاعدة مع الظرف السياسي الجديد الذي تختفي فيه أنظمة الاستبداد من المسرح، ولكن ليس مصادفة أن تجد القاعدة وغيرها من التنظيمات المتشددة نفسها في موقف لا يختلف كثيراً من ذاك الذي وجد فيه بن لادن نفسه وهو يواجه جنود أمريكا في أبوت أباد الباكستانية ليلة اقتحام مقره!.
لذا ستبدأ هذه التنظيمات تفقد مبرر وجودها الأخلاقي كما أنها ستفقد الكثير من مصادر دعمها وتمويلها المادي، والذي كان يأتي من المخابرات في الغالب، وليست مخابرات أجنبية فقط بل ومن الداخل أيضاً، ثم إن ايدولوجيا الإرهاب ليست كلها نابعة عن عوامل محلية وإنما اعتمد أيضاً على مفارقات وتناقضات السياسة الدولية. واستراتيجية (الحرب على الإرهاب) الأمريكية والحلف الدولي الذي يساندها منحت تلك الجماعات (خصوصاً القاعدة) فرصة ذهبية لكسب تعاطف فئات واسعة من العامة في البلدان العربية والإسلامية، كما أن موقفها المتعسف تجاه بعض التيارات (حزب الله، حماس، وحتى جماعات الأخوان) أبرز صورة تلك الحركات وكأنها حركات ذات مصداقية نضالية على الأقل من وجهة نظر الرأي العام في المنطقة.
ولو كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تعاطت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م  في حدود الحدث المنطقية والعقلانية بوصفه جريمة (نفذتها إحدى عصابات الجريمة المنظمة)، وليست اعتداء حربي (كما صورته الإدارة والإعلام الأمريكي والغربي) نفذته جمهورية تناصب الحضارة الغربية العداء، ومن ثم يستلزم الرد عليه تحريك كل آليات صدام الحضارات، وتجنيد الأساطيل والجيوش واحتلال الدول.. الخ، لما تطورت القضية على هذا النحو الخطير الذي حدث وتسبب في تعميق الشرخ بين شعوب الشرق الأوسط وأمريكيا، بل ولما نجحت جماعات رجعية وأصولية (متخلفة الفكر والأدوات) كالقاعدة وطالبان من الصمود في وجه الولايات المتحدة الأمريكية كل هذه السنوات!.
إن الأنظمة الديمقراطية الآخذة في التشكل حالياً لتحل محل أنظمة الاستبداد، ستجد نفسها مؤهلة سياسياً وأخلاقياً لمكافحة تنظيمات التشدد والأصولية، ومواجهتها فكرياً ومعرفياً وأمنياً... لذا من المتوقع ألا تنقضي سنوات قلائل حتى يجد الإرهابيين أن حججهم تسقط واحدة تلو الأخرى، وينتهي عهد شتاء الإرهاب ببداية ربيع الشعوب وربيع الديمقراطيات العربية.
بل وحتي الجماعات الإسلامية التي لها خبرة في العمل المدني والسياسي (كجماعة الأخوان المسلمين) ستجد نفسها أمام استحقاقات كبيرة فإما أن تنحاز كلياً لقواعد العملية الديمقراطية بكل فروعها (احترام المساواة بين الأديان، وبين الجنسين، والحريات السياسية، وحريات الرأي والفكر والاعتقاد، والحريات الشخصية...الخ) أو أن تجد نفسها في مواجهة الشعوب التي أسقطت أنظمة محروسة بتنظيمات سياسية وأمنية وجيوش نظامية.. في سبيل الحرية، ولن تتنازل عن مكاسبها لأي سبب أو مبرر.
4/ نهاية تصنيف الممانعة والاعتدال:
إلى عشية الثورة في سوريا كانت الخارطة السياسية العربية منقسمة بحسب الخبراء ومحللي السياسة إلى دول ممانعة ودول اعتدال، دول ممانعة تألفت من الأنظمة والمنظمات التي هي في حالة عداء واضح أو مستتر مع الغرب وإسرائيل وحالة تقارب مع نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. بينما دول الاعتدال تألفت من أنظمة صديقة أو متحالفة مع الولايات المتحدة ومساندة لعملية التسوية السلمية للخلاف العربي الإسرائيلي. وهذا التقسيم (برغم شيوع استعماله) لم يكن يمثل حالة متجزرة أو ظاهرة سياسية، وإنما مجرد ملمح للسياسة الخارجية لدول المنطقة، وهي سياسة خارجية بطبيعة الحال منقطعة الصلة بإرادة الشعب، بينما السياسة الداخلية لأنظمة الاعتدال والممانعة موحدة ومتطابقة وهي سياسة استبداد وقمع المواطنين واستشراء الفساد...الخ.
ضم محور دول الاعتدال دول مصر والسعودية ومعظم دول الخليج والأردن، بينما ضم محور الممانعة دولة سوريا وحلفائها (حزب الله  اللبناني وحركة حماس الفلسطينية) ووجد هذا المحور دعماً ورعاية من دولة قطر وإن كان من الصعب اعتبارها (قطر) عضواً في هذا المحور للغموض الذي يعتري أسباب ومحددات سياسة هذه الدولة الخليجية الصغيرة وإنما ثرية.
سيطر تقسيم الممانعة والاعتدال على الخطاب الإعلامي العربي وعلى لغة محللي السياسة، ولكون أنه تقسيم سطحي ولا معنى له، لذا فبمجرد سقوط أنظمة محسوبة على معسكر الاعتدال (تونس ومصر) ثم انتقال شرارة الثورة إلى سوريا لم يعد ثمة من يتحدث عن ممانعة أو اعتدال.
وحتى لو تبقت الأنظمة الجديدة (التي ستنتخب ديمقراطياً) مواقف متشددة من السياسات الغربية والأمريكية، وسنعرض لذلك بتوسع في الفصل السادس، وهو ما يتخوف منه البعض ويتوقعه البعض الآخر، فإن تقسيم الممانعة والاعتدال لن يعود مطروحاً، لأن المواقف الجديدة ستنبني على إرادة شعبية وصادرة عن أنظمة ديمقراطية، كما أنها ستكون قابلة للتحرك بناءاً على تطور المواقف الدولية، وليست مستندة إلى ايدولوجيا أو مصلحة ضيقة. لقد أسقطت الثورات الشعبية هذه الأحلاف وهذه التقسيمات، ويلاحظ الآن أن هنالك محاولة لبناء حلف جديد، تقود هذه المحاولة دول الخليج العربية والتي تسعى لتجاوز الأطر السابقة والتي حصرتها في  ضفاف غربي الخليج العربي لتصل إلى ضفاف البحر الميت (الأردن) والمحيط الأطلنطي (المغرب) وتتجاوز جمهورية اليمن التي تقدمت بطلب عضوية مجلس التعاون الخليجي منذ سنوات، مما يعني أننا بصدد التعرف أو مواجهة حلف جديد هو حلف الملوك أو الممالك العربية والذي يسعى به البعض للتصدي ومقاومة عواصف الثورات الشعبية والديمقراطية مثلما تصدوا به لحالة ثورات "انقلابات" الضباط الاحرار.
5/ سقوط أطروحة صدام الحضارات:   
نهضت أطروحة المفكر الأمريكي (صمويل هنتغتون) الموسومة صراع الحضارات عقب توسع المواجهة بين تنظيم القاعدة ودخولها لميادين جديدة (تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة بنيروبي ودار السلام سنة 1994م). ثم وجدت تلك الأطروحة رواجاً كبيراً بعد أحداث 11 سبتمبر 2011م عندما دخلت الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب وشنت غاراتها على أفغانستان والعراق.
  رغم انه لا وجود لكتاب وجد زيوعا وانتشاراً كالذي توفر لـ"صراع الحضارات" الا انه وبالمقابل لم يساء فهم كتاب ويبتسر في الشروحات والاستشهادات مثلما اسئ اليه...
فأطروحة "هنتنغتون" تلك لا تقول بحتمية الصراع بين العالم العربي والإسلامي من جهة والغرب من الجهة الأخرى لكونها حضارتين مختلفتين لا يمكن أن تتعايشا، بقدر ما تستقصي التباينات الحضارية التي غذت وتغذي الحروب والصراعات الدائرة في العالم بما يمكن من تفادي تلك الحروب مستقبلاً،  .
وقد أسهم أمريكي آخر فرنسيس فوكوياما عبر كتابه ذائع الصيت (نهاية التاريخ والرجل الأخير) والذي سنعرض في الفصل الخير لأطروحته حول أن الديمقراطية هي نهاية ما يمكن التوصل إليه، وما يهمنا هو أنه أسهم في تشويه واساءة تفسير اطروحة "كتاب صراع الحضارات" وتعميق الهوة بين الشرق والغرب حين افترض انها تنحو وتشير الي حتمية الصدام بالأساس على فرضية أن الإسلام لا يقبل التعايش وسينزع للمواجهة لفرض رؤيته على العالم، ومن ثم يرى "فرانسيس فوكوياما" (ويشاركه عديدون في ذلك منهم المحافظين الجدد) أنه يجب التصدي لهذا الخطر والتعامل مع المسلمين (شعوباً ودول)  منطلقاً من فهمه القاصر  لأطروحة الصدام هذه عندما أعلن في كتاب (نهاية التاريخ) أن الإسلام كدين وأيدولوجيا هو العدو المقبل للديمقراطيات الغربية أو العالم الحر كما سماه.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن يلام (فوكوياما) فهو مع كونه أمريكي إلا أن أصوله اليابانية والتي تمثل البيئة الحضارية والثقافية والحضارية التي تحدد ما يعقله ذهنه ومالا يعقله، والمسيحية التي اعتنقت لاحقاً في اليابان لا تمثل عاملاً مهماً ولا تلعب دوراً كبيراً في تلك الحضارة والتي يمثل مقاتلي (الساموراي) أحد أعلى أيقوناتها ( وإنما يقع اللوم على بقية نخبة المفكررين الامريكان والغربيين عموماً و المحافظين الجدد والأصوليون المسيحيين، الذين تنكروا أو نسوا حقيقة أن المسيحية في حقيقتها دين نشأ ونما في الشرق الأوسط (مثل باقي الديانات السماوية) وتنكروا كذلك لماضي الصراع والتعايش بين الشرق المسلم والغرب (أوروبا) المسيحي، ونسوا كذلك أن الإسلام يعني الكثير لأوروبا (البلغان وأسبانيا وفرنسا) وأن معظم الصدامات التي حدثت بين المسلمين وأوربا حدثت في الشرق أي أن أوروبا المسيحية كانت هي المعتدية!.
لكن، للأسف وجدت أطروحات الغرب المنتشي بانهيار المعسكر الشرقي، صدى مماثل في الشرق من الجماعات السلفية بانتصاراتها على الجيش (الشيوعي) السوفيتي في أفغانستان، إذا كان كلا الحليفان (أمريكا والغرب عموماً، والجماعات الإسلامية والأصولية) منتشياً بخمرة النصر، ويبحثان عن عدو جديد يفرقان فيه مخزون قوتيهما.. وقد وجد كل منهما في الآخر ذلك العدو المحتمل، فتلقف الإسلاميين في الشرق هذه الإشارة التي أطلقها فوكوياما و التفسير الشائه لمؤلف صمويل هنتغتون وناصبا الغرب عداءاً بعداء وتحدياً بتحدي.
ورغم ذيوع أطروحة فوكوياما، إلا أنها أيضاً جوبهت بنقد عنيف في الغرب ذاته، قبل أن تثبت الشعوب العربية بثوراتها إنها  ليست مناهضة للديمقراطية.. وكل ما في الأمر أن الشعوب تلك كانت ضحية نظام مؤسسي له تكتيكاته وآلياته الفعالة وله حلفاؤه الأقوياء ويستفيد من بيئة ومناخ مواتي، وهذا ما مكنه من اللعب بعقول تلك الشعوب وحواسها كلها، وجعلها ترزح تحت ثقل لا قبل لها به. وبرغم ذلك كله تمكنت تلك الشعوب ودون مساعدة خارجية ودون مقومات داخلية ملائمة..، تمكنه من مفاجأة الأنظمة وحلفائها ومفاجأة نفسه ذاتها عندما آمنت بقدرات جيل جديد يعتمد على أياديه الخالية من أي سلاح إنما يعتمد على ايضا إرادة قوية لا تقهر وعقول منفتحة وعلى سلاح المعرفة والتكنولوجيا المعلوماتية المتطورة، فرفعت الشعوب ذلك الثقل، وشقت تلك الستر الكثيفة التي كانت تحيط بها وتحجب عنها الهواء والرؤية، وحطمت تلك الجدر التي كانت تسجنها.
ولا نزعم أن العلاقة بن الدول العربية والغرب ستكون ودية دائماً، وإنما ستكون مثلها مثل سائر علائق الدول والشعوب عرضة للخلافات لاختلاف المصالح والقيم والأخلاق، وهنالك من الخلافات والمشاكل العالقة ما يكفي لتوتير تلك العلاقة، وعلى رأس تلك المشاكل  الصراع الأزلي (والسرمدي) بين العرب وإسرائيل، ولكن يمكن الزعم باطمئنان أن تلك الخلافات سيتم السعي إلى تجاوزها عبر الحوار وليس الصراع.
فالتاريخ لا يتقدم لعوامل ذاتية أو قدرية، وإنما يتحرك بفضل تقدم البشرية وتقدم الشعوب، والشعوب تعتقد (وهي على حق دائم في اعتقادها) أنها تستحق الأفضل، وتستحق الحرية. ومن حق الشعوب العربية الحرة أن تقول الآن كلمتها بشأن العلاقة مع الغرب، ومهما كانت تلك الكلمة، لن تكون لحتميات الصراع أو غيره أثر فيها.     
6/ نهاية أسطورة ديمقراطية إسرائيل: 
طيلة عقود الصراع العربي الإسرائيلي ظلت دولة الكيان الإسرائيلي تستغل وتستفيد من ميزة أنها الدولة الوحيدة في هذه المنطقة التي تتبنى العملية الديمقراطية، والتي يتمتع مواطنها بحقوقه السياسية!.
بل وظلت تستغل هذا الوضع في كل محفل وزمان لتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية، على حساب الدول العربية بما يشبه الابتزاز، وذلك بالتوازي مع محاباة ظاهرة من الأنظمة الأوربية وأمريكا من أسموا إسرائيل حارسة بوابتهم الشرقية في وجه الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية (البربرية).
ويمكننا أن نجادل في حقيقة ديمقراطية النظام الإسرائيلي، فالبعض يرى أن إسرائيل دولة ديمقراطية (داخلياً) أما ما يتعلق بشئونها الخارجية وعلاقتها بالفلسطينيين فهي كسائر الديكتاتوريات، تعمل فيهم آلة القمع والسجن والتشريد والتقتيل والإفقار...الخ، ونرد على ذلك بأن الديمقراطية كل متكامل ولا يمكن تجزئتها فالداخل الوطني تعامله وفق معايير حقوق الإنسان والكرامة والحقوق الديمقراطية وغير ذلك نقلب له ظهر المجن ونعامله بالقوة والعسف.. وإنما تتم معاملة الجميع وفق قاعدة واحدة تكفل الحقوق للجميع وتفرض الجزاء أيضاً على الجميع دون تمييز أو تفرقة.
ويتنامى المد الديمقراطي العربي ومع إمكانية تشكل أنظمة وحكومات ديمقراطية، وإمكانية أن تتأسس المجتمعات على عقد اجتماعي بينها والأنظمة وبين مكونتها (منظمات المجتمع المدني)، فإن إمكانية أن تحقق المنطقة العربية إنجازاً ديمقراطياً يبذ نظيره الإسرائيلي ويتفوق عليه.. وان تبني نموذجاً يتفوق على الديمقراطية الإسرائيلية، وحينها ستنفتح آفاق جديدة للتعامل مع ملف الصراع مع إسرائيل.     

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...