التخطي إلى المحتوى الرئيسي

اثيوبيا المرتبكة !

   في الاسبوع الاخير من اكتوبر الماضي شهدت اثيوبيا اضطراباً أدي لوفاة نحو 86 شخصا.. علي خلفية نزاع عرقي و بسبب التوتر الناجم عن ترقب الخطوات التالية لرئيس الوزراء "حائز مؤخراً علي جائزة نوبل السلام" نتيجة مجهوداته لتسوية نزاعات داخلية و اقليمية، و علي خلفية ترقب تطورات  و خطوات سياسية و ادارية يزمع ان الرئيس يستعد لفرضها و قد ضمنها كتاب صدر حديثاً.

اشتعلت الاضطرابات بفعل احتكاك بين قوة حكومية و أفراد من حراسة قائد طائفي (جوهر محمد/ من عرقية الارومو) و هي ذات القومية التي ينتسب لها الرئيس آبي احمد، و لذا و بحق فان السبب الحقيقي للاحتقان ليس الصراع الاثني انما الخوف علي المصالح الشخصية و مواضع الأقدام و المطامح و الطموحات الذاتية..

اثيوبيا عند مفترق طرق، أما ان تواصل التقدم علي طريق النمو و الذي يجب ان يواكبه في هذه المرحلة نمو و تطور سياسي.. أو ان تعلق في منتصف الطريق، طريق النهضة و حينها سيكون التقهقر و التراجع هو الحتمية لا الخيار.

ان صعود آبي أحمد و التسويات التي عقدها و ضعت اثيوبيا علي عتبات مرحلة جديدة، و يبدو ان البعض يتهيب المرحلة الجديدة و يخاف التغيير و يخشي من فقدان امتياز ما، التطور الذي تقرع اثيوبيا ابوابه اليوم يقتضي القطيعة مع عهد ممارسة الحكم و السياسة كهواية و الدخول الي مرحلة الاحترافية و المهنية العالية و التخصصات الادارية الدقيقة.. و يقتضي انهاء عهد سيادة الناشطين و المتطوعين فالاستقرار و الاندماج في المنظومة الدولية لا يحتمل تجريب الناشطين الهواة الذين يخطئوا و يصيبوا و ينالوا التقدير في الحالتين "اجر المجتهد" فالمرحلة الجديدة تقتضي مسؤوليات محددة بدقة و استعداد عالي لتحملها و تحمل عواقبها .

ان انطلاق اثيوبيا يقتضي انهاء مرحلة الاحزاب القومية-الاثنية و الدخول في مرحلة الاحزاب البرامجية لكامل القطر علي المستوي الفيدرالي علي الاقل اولاً، بينما يستمر التقسيم الجغرافي للاقاليم علي حاله مع مراعاة ان تكون المواطنة هي معيار الحقوق فيها و الواجبات و ليست الاثنية، و حتي الاحزاب التي تتنافس علي مستوي حكم الاقاليم؛ عليها ان تضع البرامجية نصب اعينها و المواطنة أصل الحقوق و ليس الانتماء الاثني.

هذا غالباً ما يزمع رجل اثيوبيا المقدام "ابي أحمد" علي اجتراحه و تحقيق اختراق فيه، و إن صح التوقع فان خطوته تلك تستحق الدعم و التأييد، لك خطأه ان لم يتأكد من تجهيز الارضية "الشعبية" و النخب السياسية ايضاً لتقبل هذه النقلة المهمة، و لم يشرح ببساطة فكرته حتي يتم استيعابها و تطمئن الهواجس و الظنون لدي النخب و الناشطين السياسيين و الحقوقيين خصوصاً "القومياتية" منها.. و ذلك بالتأكيد علي دعمه للنظام الفيدرالي و بل و تقويته بتفويض مزيد من السلطات السياسية للاقاليم ليكون لمواطنها و لحكومتها سلطة حقيقية راسخة و غير قابلة للانتقاص، و التركيز علي تحسين الادارة السياسية لتلك السلطات عبر تقوية مفهوم حكم القانون و المواطنة الديمقراطية التي لا تتأثر بالانتماء للون أو جنس أو عرق أو دين أو لغة.. الخ 

بالمقابل فان خطأ تلك النخب السياسية و الناشطين أنهم تبعوا هواجسهم و لم يمنحوا انفسهم فرصة لفهم الوضع، فاستعجلوا بردة الفعل و كانت العاقبة هذا التوتر الذي هز البلاد و الارواح التي فُقدت و الجرحي و الاصابات.

و حتي بعد وقوع الاضطرابات فان التعامل معها من قبل رئيس الوزراء كان بحدة و بعبارات تتجاوز اللهجة الشديدة الي التهديد و الوعيد، و التلميح الي انه مستعد للصدام مع الناشطين.

برغم كل الخسارة التي تسببت فيها تلك الاحداث المؤسفة و برغم حالة فقدان الثقة و التباعد التي خلقتها بين مكونات الدولة الأثيوبية الإجتماعية - الاثنية و السياسية؛ فان المجال يبقي مفتوحا و الفرص متاحة لتدارك الازمة و تغليب صوت العقل و الحكمة المعهودة في القيادة الرسمية و الشعبية الأثيوبية لنزع فتيل التوتر و العودة للتفاهمات و الحوار لتسوية اثار الاحداث الحزينة و تضميد أحزان و جراح عائلات الضحايا و تطمئن مختلف الاثنيات؛ ثم اعادة اطلاق العملية السياسية المدنية بحيث تبقي الدولة علي مدرج الصعود نحو آفاق التنمية المدنية و السياسية و الاقتصادية.

-------------------------

نوفمبر ٢٠١٩م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...