التخطي إلى المحتوى الرئيسي

اعتصام القيادة: الضرورة و المخاطر

 أغسطس ٢٠١٩م

كان واضحا عشية نجاح موكب 6ابريل في الوصول لمحيط مقر رئاسة الأركان المشتركة و وزارة الدفاع السودانية ( القيادة العامة سابقا ) و احاطة الشعب بها احاطة السوار بالمعصم، كان واضحا؛ ان اربعة شهور من الاحتجاجات والمواكب و الاضرابات والوقفات الاحتجاجية..الخ لم تكن كافية لاقناع البشير بالاقدام علي خطوة التنحي طوعا، تلك خطوة تحتاج الي شجاعة لا تتوفر في شخص البشير، وليست كافية لاقناع المحيطين به خصوصا نخبة "ان جاز القول" الحزب الحاكم والحركة الاسلامية ظهيرة السلطة منذ 1989 علي نصحه بضرورة التخلي عن الرئاسة وان رفض اجباره علي ذلك، بنفس القدر لم تكن نخبة "اللجنة الأمنية" تملك شئ من الثقة بالنفس لتقول للحكومة التي فوضتها سلطة معالجة الاضطرابات ما زعمت في بيانها الذي تلاه رئيسها النائب ابنعوف ظهيرة 11ابريل انها قالته للحكومة "انها تري ان الازمة سياسية وليست أمنية" و طالبت الحكومة بتقديم حل سياسي! بل علي العكس اجتهدت اللجنة الامنية في اجتراح ومحاولة تقديم مختلف انواع الحلول الامنية والسلطوية من القتل الي الاعتقال و السجن بموجب اوامر الطوارئ!

كان واضح جليا ان هذه السلطة لا تعتزم ابدا التحرك لجهة الاستجابة للرغبات الشعبية في التغيير ولا مخاطبة مطالب الشعب! لذا كان خيار تنظيم اعتصام في محيط القيادة لحين تلبية تلك المطالب خيار لا بديل عنه برغم مرارته و مخاطره.. وقد كان الخيار ناجحا حتي اجبار نائب الرئيس المعين حديثا ابنعوف ورئيس اركانه عبدالمعروف علي التنحي بعد ان اشتركا قبل 24 ساعة في عملية خلع الرئيس بعد خمسة أيام من الاعتصام بلياليهن.

هذا الاعتصام طوال أيامه الاولي فجر طاقات المجتمع السوداني و أعاد صهره وتوحيده و أظهر اصالة معدن الانسان السوداني الشجاع الذي لا يهاب الموت ولا يخيفه الرصاص ولا ترعبه الاسلحة الثقيلة ولا الاعتقال والسجن؛ واظهر طبعه الكريم المعطاء و رأينا كيف تسابق الرجال والنساء لتلبية كل احتياجات الشابات والشبان المعتصمين من مأكل و مشرب و خدمات معلوماتية وكافة وسائل الراحة فكان مجتمع الاعتصام نموذج مصغر للمجتمع الفاضل المتضامن الذي يتسم بوعي سياسي واجتماعي رفيع.

لكن بعد تلك الايام كان استمرار الاعتصام مخاطرة لم نحسب حساباتها بالدقة الضرورية، فقد عملت الجيوب الأمنية طيلة شهرين علي تشويه صورة الاعتصام فجندت كل قدراتها التنظيمية و المالية والاعلامية لهدف واحد هو خلخلة تماسك مجتمع الاعتصام و زراعة عدد مهول من العناصر التي تعمل علي تخريبه تنظيميا و امنيا وسلوكيا حتي تملك مبرر يمكنها من استخدامه للانقضاض و تفريق المعتصمين بالقوة بعد ان تكون حيدت قطاع واسع من الرأي العام.

لم تملك القيادات الحزبية والمهنية الجرأة علي اقتراح فض الاعتصام طوعا بعد عشرة ايام او اسبوعين او شهر و شهرين! ولم يحسب احد حساب التدخلات و الفوضي التي يتم بثها يصورة منهجية مدروسة، لم يفكر احد في ان اختزال حراك شعب في وطن مترامي الاطراف في منطقة القيادة و بعض المناطق الاخري في ولايات اخري هو اضعاف للحراك وليس تقوية له! و لم يفكر احد في ان حصر الناس في شوارع محدودة يجعلهم هدف ثابت نموذجي! و لم يفكر احد في ان تكتيك الاعتصام نفسه تكتيك جديد ليس علي السودان بل علي العالم بأسره يجب توظيفه بحذر شديد و لوقت محدد تحديد محصور باقل فترة زمنية ممكنة و في اضيق نطاق مكاني ممكن حتي يسهل ضبط ومنع التفلتات والاختراق الأمني ومحاربة خطط التشويه والاستهداف.

كل هذا لا يعني اعفاء الجهات الرسمية من المجلس العسكري الي اصغر موظفي مدني او عسكري من المسؤولية المباشرة عن جريمة الغدر التي وقعت وكل الخسائر والاضرار التي ترتبت عنه و الانتهاكات الجسيمة لحقوق و كرامة المواطن التي صحبته.. تلك الجرائم والانتهاكات ستتم المحاسبة عنها طال الزمن او قصر، انما القصد ان نتحمل وتتحمل الجهات السياسية في قوي اعلان الحرية والتغيير المسؤولية السياسية المتمثلة في سوء التقدير و الاهمال الفادح والذي تسبب في اضاعة زخم ثوري و مجهود تطلب مراكمته تضحيات كبيرة من كل الفئات الشعبية، و علي تلك القوي ان تتحمل المسؤولية بشجاعة و تعترف بما اقترفت من خطأ..

ان شعب تعرض لقمع واستبداد مركب 'سياسي واقتصادي وعسكري وديني وثقافي واجتماعي' لثلاثين عاما متصلة كان بحاجة لكرنفال كالاعتصام يستعيد فيه وبه وعي الحرية وحرية الضمير والوجدان

علي كل حال علينا جميعا ان نعمل علي الا يعني ولا يكون فض الاعتصام بداية لجولة جديدة من الاستبداد والقمع و لتأسيس دولة لاقانون جديدة و دولة خوف وجهل ثانية.. علينا جميعا ان نبحث في سبل تثبيت دعامات المجتمع الحر الذي يصدع الجميع فيه بارائهم دون وجل او توجس، علينا ان نعمل علي استدامة مناخ الحرية الذي دفع ثمنه من دم الشهداء و المصابين و من دموع الامهات والاباء و من عرق الاخوة والابناء في المعتقلات وفي مواكب الحرية.

ان اللحظة التي اثمرها الاعتصام لا تزال بين يدينا و علينا الحفاظ عليها وحمايتها حتي تنمو ويشتد عودها، نحميها كلنا كسودانيين فلكل منا دور و علي كل واجب، والسودانيين من ذوي الخبرة و اصحاب الرساميل بالخارج عليهم العودة لتثييت هذه المكاسب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...