نحن موعودون بواحدة من اكبر المناورات السياسية في العالم ستشهدها منطقة الشرق الاوسط و ستكون السعودية هي محورها و اللاعب الرئيسي فيها لذا انصح الجميع بالانتباه لمشاهدة الحدث الذي لن يقل عن مرور المذنّبات و سقوط النيازك و الكسوف الكامل .. الخ
البعض فاتتهم المناورة السابقة "عند انتخاب ترامب" و لم يلتقطوا إلا خبر التعاقدات المليارية التي ابرمتها السعودية مع اميركا ابان زيارة ترامب "صفقة ال 385 مليار دولار" بعد ان ظلت القنوات و الصحف تردده لأشهر بعدها..
لم يهتم احد بالدوافع التي حدت بالسعودية لابرام تلك الصفقة التي تدور لها الرؤوس، و قد ادارت بالفعل رأس ترامب و غير مواقفه بعدها ب 180 درجة!
ترامب الذي لم يكن احد يتوقع فوزه بما في ذلك السعوديين و الاميركيين انفسهم كان ابان حملته يتوعد المسلمين و دولهم باجراءات قاسية و كذلك كان يتوعد كل حلفاء اميركا "الأغنياء" بان ادارته ستتخلي عنهم ان هم لم يدفعوا كل نفقات التزام اميركا بضمان امنهم..
بالنسبة للسعودية لم يكن الأمر يتوقف عند ذلك الحد بل ان استقرار الحكم في السعودية و مستقبل سلطة ال سعود كانت علي المحك بسبب خطوة نقل السلطة من جيل الابناء الي الاحفاد ثم نقل السلطة من ابناء الملك "المؤسس" عبد العزيز الي ابناء الملك سلمان، تلك كانت خطوة لا تحتمل اي تراخي من الحليف الكبير "اميركا"، و كذلك كانت حرب اليمن و التي هي حينها في مستهلها و التي يعتمد فيها الجيش السعودي علي خدمات الاستخبارات الاميركية و اقمارها العسكرية و تقنياتها و خبراء الجيش الاميركي؛ كانت لا تحتمل كذلك اي تصرف اميركي من الادارة الجديدة غير مأمونة التصرفات و العواقب..
لذا كانت حكومة السعودية علي استعداد لفعل اي شئ يضمن بقاء اميركا علي خط دعم السلطات السعودية..
و بالفعل نجحت المناورة لدرجة شعرت معها سلطات المملكة بأريحية فأقدمت علي خطوة تصفية المنشق السعودي الصحفي "جمال خاشقجي" في تركيا، و لعل بعضكم استمع لتعليق الرئيس ترامب حين تعرض لضغط اعلامي و من ادارة وكالة المخابرات المركزية و من الكونغرس لمعاقبة السعودية حين ذكر "لكن عندما نعاقب السعودية فنحن نكون كمن يعاقب نفسه"!!! و بالفعل امتنع و صمد في وجه تلك الضغوط حتي مرت العاصفة ..
و حتي تبدو تلك المناورة منطقية و مقبولة وسعت السلطات السعودية من مدي تحركها فاصبحت تهاجم ادارة اوباما باستمرار "هذا الفعل الذي يحبه ترامب؛ و الذي ظل يفعله حتي آخر اسبوع له في ولايته الوحيدة" بحجة انها تخلت عن حلفاءها في المنطقة و اطلقت يد ايران و اطلقت لطموحها النووي و الصاروخي و لاطماعها و تدخلها في دول الاقليم العنان.. مع ان حرب السعودية ضد الحوثيين انطلقت في عهد اوباما و بمباركته!! كما اخذت تتقارب مع اسرائيل بحجة ان الخطر الايراني هو الخطر الفعلي و الحقيقي و الوشيك علي كل دول المنطقة بما فيها اسرائيل..
ذلك التقارب الذي تمخض عن موجة التطبيع الأخيرة و التي و إن لم تكن السعودية طرفاً فيها إلا ان الواضح لكل ذي بصيرة انها ما كانت لتتم لولا رعاية السعودية و تشجيعها، و في هذا السياق يفهم لقاء نتنياهو بولي العهد السعودي و الذي انكرته السعودية..
مع ان حجة الخطر الايراني هذه يمكن ضحدها بسهولة فايران موجودة في المنطقة بنظامها "تصدير الثورة الاسلامية" منذ اربعين سنة و ليس ثمة جديد في هذا الامر، بل تحالفت السعودية و اميركا (و اسرائيل) لضرب العراق و هو الذي تولي لثمان سنوات مهمة التصدي لخطر ايران و حراسة بوابة العرب الشرقية!! و تم ضرب العراق و تدميره تماماً حتي اصيب بالعجز بينما لم يتعرض الايرانيون لأي أذي!! و منذ 2003م تاريخ إسقاط نظام صدام حسين و ايران تقف علي حدود العرب الشرقية دون ان يلمس احد هذا الخطر الداهم الذي تمثله، بل و كانت العلاقات السعودية الايرانية اكثر من طبيعية حتي 2014م !!
كما افتعلت أزمة في الخليج (حصار قطر) و الذي غالباً ما يكون تم بتنسيق كامل بين العواصم الخليجية بما فيها الدوحة؛ اذ ان خطر جموح و جنون ترامب لا يتهدد الرياض وحدها بل كل دول المنطقة التي لم تعتد التعامل مع ادارة اميركية خارجة عن المألوف! افتعال مثل الازمة الخليجية مفيد لجهة اصابة الحليف الاميركي بشلل مؤقت تجاه المنطقة و حكوماتها، و هذا ما حدث بالفعل.. حصار قطر كان تكتيك دفاعي خليجي مشترك و متوافق عليه بغرض تحديد مقدرة الادارة الاميركية علي التدخل في شؤون انظمة الخليج، و قد ادت الغرض منها.
انجزت السعودية مناورتها تلك بامتياز و اصبح نفوذها علي ادارة ترامب ملحوظ و بلا حدود، فقد تمكنوا من إقناع الادارة الاميركية بتحسين علاقتها بمصر السيسي و إعادة كامل المساعدات الاقتصادية و العسكرية لمصر بل و وصل الأمر لدرجة تبني ترامب للسيسي و وصفه ب"دكتاتوري المفضل"! كما تمكنت من إقناع الادارة باعادة ادماج نظام الخرطوم المارق "نظام البشير" فكان اللقاء الشهير علي هامش القمة الاميركية السعودية- و الاسلامية بالرياض بين ترامب و مدير مكتب البشير و الشروع في رفع العقوبات عن نظام البشير مع الوعد بازالته عن لائحة الانظمة الراعية للارهاب و هو ما لم يتم حتي اطاحت ثورة شعبية بنظام البشير في 2019م..
من الأن و صاعداً و مع سقوط ترامب الانتخابي ذلك السقوط المدوي و المجلجل و الذي كذلك لم تكن تتوقعه السعودية و اكتساح بايدن-هاريس للانتخابات الرئاسية تستعد السعودية للقيام بمناورة العودة الي مرحلة ما قبل ترامب، المناورة التي لن تقل ضخامة و اذهالاً عن سابقتها..
لضخامة تلك المناورة و تعدد الأطراف السياسية و الاعلامية المشاركة فيها ستكون فيها كثير من الاصوات النشاز "التي ستستمر لوقت ليس قصير في ترديد اقوال و القيام بافعال تنتمي للمناورة السابقة" و هذا ما يمنح المناورة شئ من المصداقية، و يجعل الأمر كله يبدو كما لو انه حقيقي، و ليس مجرد مناورة سياسية محسوبة.
منذ الأن بدأت السعودية تتحدث بثقة عن ان علاقتها بالادارة الجديدة لن يكون فيها ما يقلق، فالسعوديين يعرفون كيف تعمل الادارات الاميركية في الاوضاع العادية "كما عرفوا كيف تدار في اوضاع التقلبات كعهد ترامب" كما ان ثقة السعوديين تستند علي احتياطاتها المالية الضخمة و حجم تعاملاتها مع اميركا و سائر الدول الغربية و يعرفون ان تلك الجهات تقدر عالياً المصالح الاقتصادية، حتي و إن كانت احياناً علي حساب المصالح الأمنية و القيم الغربية "حقوق الانسان و الديمقراطية.. الخ".
عموماً ستكون تلك المناورة السياسية مشهد من الممتع متابعته.. و سنري فيه كيف تخرج السعودية ببساطة من اليمن و كيف يلتئم شمل دول الخليج و ينتهي حصار قطر و كيف تتحسن علاقات الخليج بايران و تركيا باطراد..
نوفمبر ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق