التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في بلادي.. من لم يمت بالمرض مات بخطأ طبي !!

    طيلة السنوات والعقود الماضية لم يكن المواطن السوداني يكدح كي يعيش حياة مرفهة او حتي كي يحيا حياة عادية من حيث السكن والغذاء والتعليم والترفيه ..الخ؛ بل كان  يكدح كل وقته ليوفر المال اللازم الذي يمكنه من مجابهة تكاليف علاجه ومن يعولهم من أفراد أسرته وتكاليف شراء الأدوية عندما تحين لحظتها!
    لهذا السبب كانت الاجراءات الاقتصادية الاخيرة التي اجازتها الحكومة بمثاية رصاصة الرحمة التي اطلقتها علي آمال وأمنيات المواطن في تحسن ظروف عيشه، إذ ما عاد الان في مقدور المواطن شراء الدواء لعلاج أوجاعه بعد أن غض الطرف طويلا عن أوجاع اقتصاد البلد و عن جراح الحرب الأهلية و تهتك النسيج الاجتماعي..
    عدم قدرة المواطن عن مداواة أوجاعه بالدواء في وقت تحاصره فيه الامراض من الجهات الأربع بسبب ضعف الرعاية الصحية و سوء النمط الغذائي و تلوث البيئة من حوله بالاوساخ و انعدام التثقيف الصحي ..الخ، تجعله في مواجهة خيار واحد هو السؤال الوجودي "نكون أو لا نكون؟" وفي مواجهة قدره بعد ان كان يتجنب تلك المواجهة لعقود علي أمل ..
    للأسف ما أبرزته الأسطر السابقة من صورة مأساوية لا يتمثل كل المشهد أو كامل القصة، بل مقدمة لا غير.. فالتدهور الاقتصادي و الاجتماعي بالبلاد أدي لخروج (هروب) اغلب الكوادر المؤهلة بحثا عن مكان آمن و عن عيش كريم .. و قد نال قطاع الصحة و العلاج نصيبه من هجرة الكوادر تلك غير منقوص، اذ تقول بعض الدراسات ان عدد الاختصاصيين السودانيين العاملين ببريطانيا وحدها يتجاوز الـ 3.000 طبيب اختصاصي؛ ولا تملك الجهات الصحية هنا ارقام عن العدد الكامل الذي يشمل العاملين بالخليج العربي و استراليا وامريكيا.. الخ.
   بعد الهجرة الملحوظة هذه تبقت كوادر لم تجد حظاً من التدريب و انتقال الخبرات و المعارف والتأهيل.. لذا اخذت الاخطاء الطبية في التزايد بمعدلات مخيفة، ففيما بين خطأ اختصاصي التخدير الي خطأ الجراحين و خطأ الكوادر المساعدة تدفع اعداد كبيرة من المرضي ثمن تلك الاخطأ من عمرها ومن سلامتها، حتي وصلت درجة تقارب فيها عدد من يموتون بسبب المرض اعداد الذين يدفعون حياتهم ثمنا للأخطأ الطبية و الإهمال..
   ومع بدايات خروج الدولة من قطاع الخدمات الطبية والعلاج، وإحالتها بالكامل للقطاع الخاص "المستوصفات الطبية" بدات النزعة التجارية تطغي علي الصبغة الانسانية؛ فأصبحت المستوصفات و المستشفيات الخاصة عبارة عن فنادق فخمة متعددة الانجم!! ليس الا .. إذ لا تقدم خدمة علاجية ذات بال.
    تحضرني هنا عدة تجارب وقصص ابرزها قصة تداولتها صحف الخرطوم في العام 2010م، تتحدث عن مستشفي خاص قام باحتجاز جثة مريض لأن ذويه لم يسددوا فاتورة العلاج (و قمن الاقامة) للمستشفي!! رفضت ادارة المشفي الخاص قبول اي ضمانات ورفضت السماع لكل الحجج بما فيها اغلاق البنوك في ذلك اليوم واصرت علي استلام المبلغ كاملا مع العلم أن بعض افراد الاسرة كانوا غير راضين عن مستوي الرعاية والبعض يري ان الاهمال الطبي كان من بين اسباب وفاة المريض بالمستشفي الخاص، وللمفارقة فان المريض/ المتوفي هو احد اعلام القضاء والقانون السوداني و وصل في السابق لأعلي المراتب في جهاز الدولة، سقنا هذه القصة للتدليل علي ان المستشفيات الخاص اضحت لا تقيم وزنا الا لما يدخل خزاناتها .
   عايشت أيضا خلال الأشهر الماضية أكثر من قصة تمثل كل واحدة منها جانب من مأساة الحقل الصحي و من دوامة الاخطاْ الطبية التي تحيط بالمرضي في السودان، منها مثلا قصة الرضيع الذي قدم به والداه الي العاصمة من مدينة "بورتسودان"  والتي تعد احدي اهم الواجهات الحضارية للسودان لإطلالتها علي ساحل البحر الاحمر بالمناسبة؛ بعد ان اصيب فيها بتلف تام في زراعه الايسر و ساقه اليمني ونتج التلف عن حقن خاطئ لمحلول وريدي، قرر الاطباء بتر اطراف الرضيع من خلاف قبل ان يسري التسمم لبلقي البدن، لكن رعاية الله كانت اسبق اذ اقتضت ان ترتفع روح هذا الطفل البرئ قبل ان يععملوا فيه آلاتهم تقطيعاً، ويعاني وتعاني اسرته وهي تراه ينمو أمام ناظرهم مشوها غير قادر علي ما يقوم به أقرانه وينمو بلا يد و بلا  قدم ولا ساق !
   ايضاً قصة الشاب الذي اصيب في حادث سير و ظلت اسرته تطوف به المستشفيات بحثا عن غرفة للعناية المكثفة ولكن بلا طائل حتي فارق الحياة، ذلك لأن اغلب المستشفيات اضحت لا تحبذ ادخال مرضي حالتهم حرجة اذ تعتبر موتهم فيها سبة و لكون معظمها مستشفيات تجارية اعتبرت ذلك منقصا من سمعتها في السوق "سوق الصحة"!!.
   كذا قصة زميل لي أصيب بداء الصدر و رفضت معظم المستشفيات استقباله لأنها لا تملك امكانية توفير شروط حجر صحي و التعقيم اللازم حتي فارق المريض الحياة في رحلة بحث بالسيارة بلا طائل عن مستشفي يقبل استضافته!!
   كذلك تزايدت بمعدلات خطيرة حالات الموت في المراكز العلاجية بسبب نقص او انعدام الاوكسجين ! وحالات الموت اثناء الولادة بسبب أخطاء ساذجة واصبحت اكثر من أن تحصي.. ولو عاش الشاعر القديم الذي قال (من لم يمت بالسف مات بغيره) ايامنا هذه في السودان لقال (من لم يمت بالمرض مات باخطاء الاطباء)!!
   وعلي ما يبدو فان السلطات الصحية متمثلة في الوزير الاتحادي "ابوقرده" و وزير صحة العاصمة "حميدة" وقمة جهاز السلطة "الرئيس" تبدو غير معنية بما يحدث لأن تلك الحالات التي ذكرنا ليست مجرد حالات خطأ طبي عادي انما ناتجة عن اخطاء سياسات ومنهجية!! و ربما لا تعلم السلطات ان المواطن اصبح يفكر مائة مره قبل ان يلجأ لمستشفياتها!! بل وأصبح يعتقد محقا بأن عليه تجنب الاطباء ما وسعه ذلك لأن دخول المستشفيات أضحي أقرب الي مواجهة الموت منه الي استقبال العافية.. لذا فقد اغلب الناس هنا ثقتهم في الطب الحديث وما انتشار الطب الشعبي والعلاج بالاعشاب والرقية الدينية وغير ذلك من انماط العلاج بالوسائل البدائية الممزوجة بالشعوذة والخرافات الا دليل علي ذلك.
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...