التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإضراب .. الحق القانوني للعمال وتوظيف السياسيين

   اضراب أطباء وزارة الصحة السودانية اعاد مفاهيم عديدة كانت قد اندثرت أو اوشكت من الساحة العامة، واحيا ثقافة كانت ذات يوم ملء السمع،
 فبعد السياسات التي كانت تواجه بها سلطة الانقاذ أي تململ او احتجاج داخل أي مؤسسة من مؤسسات الدولة وتعتبر ذلك التململ بمثابة تمرد و خيانة وطنية وتواجهه بأقسي درجات العسف والتنكيل الذي وصل لدرجة التصفيات خارج نطاق القضاء كما حدث في آخر اضراب اقدم عليه الاطباء السودانيون قبل اضراب اكتوبر 2016م، وفيه لفظ الطبيب علي فضل روحه في زنازين الامن وتم سجن وفصل وتشريد عشرات الاطباء،
  بعدها تم تدجين نقابات العمال كلها (اطباء ،محامين،معلمين، مهندسين...الخ) ليصبح شغلها الشاغل هو التسبيح بحمد الحاكم و تسيير مسيرات التأييد وتدبيج بيانات الولاء الاعمي؛
    حتي نسي الناس والعمال انفسهم مفردات الاضراب أو الاحتجاج  والمفاوضات المطلبية ..الخ،
بالتأكيد السلطة لم تتغير لأنها رشدت بل اصابها الوهن ، وكان اضراب الاطباء الذي اضطروا اليه غير باغين بمثابة دابة الارض التي أكلت منساة النبي سليمان، فقد وصلت البيئة العلاجية في المستشفيات مرحلة من التدهور مريعة، كما ان ظروف و شروط عمل الاطباء جعلت الكثيرون يحمدون الله لأنهم فشلوا في الالتحاق بكليات الطب !!
  فوق ذلك كله فإن اللوم والعتب كله يقع علي كاهل الاطباء، فكل من طاله الاهمال والتقصير العام يريد من الطبيب ان يداوي علله ، و أول هؤلاء افراد القوات النظامية والذين يفترض فيهم انهم منسوبوا الجهة المسؤولة عن حال البلاد اليوم وأول المستفيدين من التغييرات التي طرأت علي بني الحكم والمجتمع منذ 1989م .
  لذا لم يجد الاطباء بد مما أقدموا عليه ، ولكأني بهم قلبوا كل دفتر المواجع فأهتدوا اخيرا للدواء المر وهو الامتناع عن العمل (الاضراب) لحين تصحيح اختلالات الحال المائل، و استجمعوا شجاعتهم كلها لأنهم يعلمون عسف السلطة ويدها الثقيلة ويعلمون ان ثقافة الاضراب قد اندثرت وووو. و ان المواطن العادي قد يحملهم مسؤولية اضافية ان هم امتنعوا عن خدمته و بالتالي يساند السلطة في مواجهتهم بدلا عن ان يسندهم في وجه السلطة.
  لقد اقدم الاطباء علي ما اقدموا عليه وهم يعلمون واقع الحال وملابساته كلها، فأعدوا لمعركة الاضراب عدتها بما تتطلبه من تنوير للعاملين في الحقل الطبي بحقوقهم وتنوير للمواطن بأن احتجاجهم مشروع وان غايتهم هي مصلحته.
  كان اضراب اكتوبر ناجحا بما لاشك فيه لكونه اعاد تسليط الضوء علي ثقافة حق العمال وان كان البعض لا يزال لا يفهم أو لا يستسيق فكرة ان يضرب طبيب عن معاينة مريض!! فالاضراب علي كل حال هو سلاح المضطر الذي أعيته الاسباب والحيل،
فكل المواثيق والدساتير اعترفت بحق العمال في الاضراب، علي رأس تلك النصوص القانونية الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي ينص قي بنده ال23 ان من ضمن حقوق الانسان حقه في العمل و حقه في الانضمام للنقابة التي تمثل مصلحته، فهذا البند مقروءا مع بند منع الاستعباد والسخرة (البند الرابع) ينص ضمنا علي حق الاضراب فأي عمل بلا حق للعامل في الاضراب يعتبر ضربا من السخرة والاستعباد.، كما ان المادة  1/8/د من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ينص علي الحق في الاضراب صراحة.
بل ان الشعوب التي بلغت مراحل متقدمة في الممارسة المدنية والديمقراطية منحت حتي افراد الشرطة حق تكوين النقابات الخاصة بهم وحق الاضراب.
الاشكال الرئيسي الذي يواجه أي اضراب في ظروف السودان الحالية، و واجه بالفعل اضراب الاطباء الاخير هو تهمة التسيس التي يمكن ان تلقي في وجهه، وقد وجه وزراء الدولة وداعميهم تهمة التسيس للأطباء المضربين،
  ان دخول الساسة الحكوميين والحزبيين عموما علي خط اي اضراب يشكل تهديد للمطالب الحقوقية والمهنية للمضربين، وان كان ثمة تسيس في الاضراب الاخير فهو حدث من طرف مسؤولي حزب المؤتمر الوطني .. فليس من المقبول ان يضع أي سياسي (وزير او وزير دولة أو ولاية) في وضع المعني بأزمة الاضراب، بل وطالما ان المضربين هم موظفي خدمة عامة ينبغي ان يترك شأن البت في قضيتهم للمسؤول الاول عنهم أي وكيل الوزارة بإعتباره أرفع مسؤول مدني في اختصاصه، و مجرد ادلاء أي وزير بتصريح في شأن الاضراب يعتبر تسيس له، واستغلال للسياسه لتخويف أو اثناء المضربين عن المطالبة بحقوقهم.
  وهذا بالضبط ما حدث في اضراب الاطباء حيث تدخل السياسيون بشكل سافر خصوصا وزيرة الدولة بالصحة والتي لم يحس لها احد بأثر ولم يشعر لها بوجود الا بعد نشاطها لفض اضراب الاطباء ، وكذلك فعل بقية الوزراء في تخصصها ما يعني ان الدولة وهي التي سعت لإغتيال وتصفية النقابات المطلبية هي التي تسعي ايضا لتسيس أي تحرك نقابي حتي يسهل عليها محاربته.
 عليه وقبل مطالبة أي جهة بعدم تسيس اي تحرك نقابي ينبغي مطالبة مسؤولي الدولة بعدم وضع انفسهم (بكامل ثقلهم السياسي ونفوذهم) في مقابل موظفين قليلي حيلة ولديهم مطالب عادلة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...