مخطئ من يقول او يعتقد أن سودان ماقبل الاستقلال عن الحكم الانجليزي
المصري كانت له سياسة خارجية، ومخطئ من يجزم بخلاف ذلك ايضاً، فالسياسة الخارجية
كغيرها من الامور في بلدنا كانت اكثر تعقيداً من ان يقطع فيها برأي أو قول فصل؛
وذلك لعدة أسباب منها طبيعة الاستعمار (ثنائيته)..ويمكن الزعم بان السودان هو
الدولة الوحيدة في العالم التي تشاركت واتفقت علي إحتلالها واستعمارها قوتان في آن
معاً " بغض النظر عن فوارق القوة بينهما وغض النظر كذلك عن المعطيات التي
تحدد وتحكم العلاقة بينهما" ومنها كذلك تخبط الحكومات الوطنية من بعد
الاستقلال... ومعلوم مثلا ان السودان كان يتبع (اداريا وسياسيا) لمكتب خاص في
وزارة الخارجية البريطانية وليس لوزارة المستعمرات كسائر الاقطار الخاضعة لحكم
التاج البريطاني، وفي مصر كذلك لم يتبع للوزارة المصرية (حتي في الاوقات التي كانت
مصر تحكم بحكومة احزاب منتخبة عقب ثورة 1919م) بل يتبع لمكتب الحضرة الخديوية.
كنتاج لذلك الوضع لم يكن
للسودان توجه معين في السياسة الخارجية، بل وأسواء من ذلك لم يكن فيه نظام سياسي
محدد يتبني شكلا معروفا من اشكال الحكم، بل مجرد نظام اداري وضعت خطوطه العامة
بإبتسار شديد إتفاقية الحكم الثنائي الانجليزي المصري، وتوسعت في تفسيره واكماله
وتطبيقه بريطانيا ممثلة في شخص الحاكم العام وبمساعدة الأوامر والتوجيهات التي
تصله من المندوب السامي البريطاني بالقاهرة ومكتب السودان بالخارجية بلندن، ومعروف
ان البريطانيين انفردوا تماما بتقرير شئون السودان بعد احداث سنة 1924م، فيما بقي
الوجود المصري رمزي ومنحصر في علم مصر المرفوع الي جانب العلم البريطاني
"المستر جاك" في سرايا الحاكم العام.
في هذا الملف نهدف لتتبع
خطوات البلوماسية السودانية وسياساتنا الخارجية منذ بواكير نشأتها وحتي اليوم،
لمعرفة متي سارت خطواتها بثقة ومتي تعثرت؟ اين؛ ولأي الاسباب؟وكذا بهدف الرصد
العلمي الدقيق والوثيق للوصول لخلاصات ونتائج تسهم في إقالة عثرة المسير في مقبل
الايام.
نشأة جهاز الدبلوماسية:
لم يكن في دولة السودان
المعاصرة (التركية السابقة واللاحقة وحكومة المهدية) جهاز دبلوماسي بالمعني والوضع
مفهوم في حالة الاستعمار الخارجي ومفهوم كذلك في ظل الدولة المهدية التي لم يكن
لها اجهزة حكم أو اجهزة دولة بالمعني او المفهوم المعاصر، وفيما كتفي الامام
المهدي وخليفته بممارسة دبلوماسية الرسائل الدعوية، أقامت دولة الحكم الثنائي
مكتبا بالقاهرة اطلق عليه مسمي "وكالة حكومة السودان" وكان اول من تولي
مهام رئاسته الامير "من افراد العائلة الحاكمة البريطانية" الكلونيل
جلايخن يعاونه ضابطان يختص احدهما بمخابرات السودان، وتعتبر تلك (الوكالة) بمثابة
اول سفارة دائمة ترعي المصالح السودانيةفي الخارج. بينما تشكلت الخارجية السودانية
بشكلها الحالي في العام 1954م أي مع تشكل أول حكومة وطنية (الحكم الذاتي) ولكون ان
اتفاق الحكم الذاتي نص علي ان يختص الحاكم العام بتقرير سياسة السودان الخارجية
فقد اقتصر تأسيس الوزارة علي منصب الوكيل واسند للدكتور عقيل احمد عقيل، وبعد
اعلان الاستقلال في يناير 1956م تم تعين المحامي مبارك زروق ليكون بذلك أول رئيس
للدبلوماسية السودانية، وتعاقب بعده علي حمل خقيبة السياسة الخارحية عدد من
الدبلوماسيين والسياسيين ابرزهم : محمد احمد المجذوب، احمد خير، ابراهيم المفتي،
الشيخ علي عبدالرحمن، فاروق ابو عيسي، منصور خالد، جمال محمد احمد، الرشيد الطاهر،
حسن الترابي، علي عثمان، لام أكول، ودينق الور، والاخيرين من جنوب السودان تسنما
الكرسي عقب توقيع اتفاق سلام مع حركة التمرد الجنوبية بقيادة جون قرنق.
ومنذ تأسيسها والي اليوم لم
يطرأ تغيير مهم علي هيكل الوزارة واجهزتها وكل ما تم هو تعديل اسمها ليصبح وزارة
الشئون الخارجية أو العلاقات الخارجية في بعض الفتراتلتعود الان الـ (مسماها
القديم) وزارة الخارجية، فالدبلوماسية العامة والسياسة الخارجية للدولة السودانية
ظلت منذ الاستقلال رهينة وحكر بيد موظفيها من البروقراطيين الخاضعين للروتين
الحكومي، كل ذلك في ظل ضعف لجان السياسة الخارجية بالبرلمانات المتعاقبة وغياب
مجالس مستقلة تعني بتخطيط السياسة الخارجية وعلاقات السودان الدولية... وعدم وجود
مراكز بحثية ومنظمات مدنية تعني بهذا الصدد.
مبادئ السودان البلوماسية:
اعلن الرئيس اسماعيل
الازهري "رئيس أول حكومة وطنية" في خطاب اعلان الاستقلال ان السياسة
للخارجية للبلاد تحددها المبادئ الاتية، وهي مبادئ أسهم في تطبيقها وتطويرها عدد
من الوزراء والدبلوماسيين:
أولاً: حماية المصلحة الوطنية ورعاية مصالح المواطنيين.
ثانياً: انتهاج سياسة عدم الانحياز لأي من المعسكرين المهيمنين علي
العالم.
ثالثاً: دعم ومساندة الشعوب لنيل حرياتها ومساندة حركات التحرر
الوطني.
رابعاً: دعم كفاح الشعوب ضد انظمة التمييز العنصري او الديني.
خامساً: العمل اللصيق مع افراد الاسرة الدولية والمحيط الاقليمي
لتحقيق التعاون السياسي والاقتصادي والامني.
لكن في فترات لاحقة لوحظ
تخلي الدبلوماسية السودانية عن مبدأ عدم الانحياز وتقرب الحكومات المتعاقبة من أحد
قطبي العالم (غربي وشرقي) وتخليها عن الحياد الدولي خصوصاً في عهد الفريق ابراهيم
عبود والعقيد جعفر نميري الذي بدأ مماليا للإتحاد السوفيتي واختتم عهده مواليا
وحليفا للولايات المتحدة الامريكية، ومع انهيار المعسكر الشرقي في أوائل التسعينات
لم تعد مبادئ عدم الانحياز حاضرة في أجندة اولويات الدبلوماسيين حالياً.
محطات دبلوماسية:
مرت السياسة الخارجية لدولة
السودان بمحطات عديدة منذ الاستقلال اهمها:
1/ انعقاد قمة الدول العربية في أغسطس 1967م والتي عرفت بقمة اللاءات
الثلاثة، ومع كونها قمة يفخر الساسة والدبلوماسيين السودانيين بمنجزاتها، الا ان
التقييم المنصف لها يشير الي ان سقوط الحكم الديمقراطي في السودان (الديمقراطية
الثانية) و وصول عسكر الضباط الاحرار الي الحكم عبر حركة 25مايو 1969م كان من اهم
ثمار تلك القمة إذ ان اجراء المصالحة بين الملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز والزعيم
المصري جمال عبد الناصر أدي الي ان يصرف الاخير نظره عن تحويل أمارات الخليج
وممالكه الي جمهوريات، وتفرغ لإسقاط الانظمة الليبرالية ومساندة حلفاءه من
اليساريين والقوميين للسيطرة علي دول شمال افريقيا.
2/ انعقاد قمة الخرطوم الافريقية في يناير 2006م، وقد كانت قمة
روتينية عادية ومع ذلك تكشف فيها ضعف مركز السودان الافريقي اذ فشلنا في الحصول
علي منصب رئيس الاتحاد برغم احقيتنا بحكم العادة.
3/ انعقاد قمة الخرطوم التانية للقادة العرب في مارس2006م، وهي كذلك
قمةاعتيادية.
السودان والامم المتحدة:
كان السودان عضوا اصيلا ومحترما من باقي افراد الاسرة الدولية وصوته
مسموعا داخل اروقة الامم المتحدةعلي اختلاف وكالاتها وهيئاتها، لكنه تحول الان
بفعل الانهيار الاقتصادي والتمزق الذي اعتري الجبهة الداخلية تحول الي عضو ضعيف
ومعزول ومنبوذ ومطارد صدرت بحقه عدد كبير من القرارات والبيانات الرئاسية من مجلس الامن
(تربوا علي الثلاثين قرارا وبيانا)، كما أتخذت بشأنه اجراءات داخل وكالات أممية
عدة، بل وحيل بين رئيسه و حضور آخر إجتماع من إجتماعات الجمعية العمومية للأمم
المتحدة.
الدبلوماسية و وحدة السودان:
وابان الفترة الانتقالية التي اعقبت توقيع اتفاق نيفاشا والذي قرر
اجراء استفتاء بجنوب السودان لتقرير مصير ذلك الاقليم، لم تقم الدبلوماسية
السودانية بأي دور يذكر دفاعا عن وحدة أراضي السودان، بل ان الحزب الحاكم اهتم
بالسيطرة علي وزارات الاقتصاد (النفط والمالية) وترك حقيبة الدبلوماسية لشريكه
(الحركة الشعبية)، ولأن السودان لم يدافع عن وحدة دول اقليمية اخري بل ساهم بجهد
وافر في استقلال اريتريا عن الجارة اثيوبيا، فقد ارتد سهم التقسيم عليه، فيما لم
تخبر الخارجية السودانية دول المنطقة والعالم بأن وحدة اراضي السودان قضية ركزية
تتوقف علاقة السودان بأي دولة علي ما تتخذه تلك الدولة من خطوات بهذا الشأن.
السودان والتصالح مع العالم:
ان نجاح السياسة الخارجية للسودان في احداث اختراق مهم في العلاقة مع
الدول المحورية في العالم (الولايات المتحدة وبريطانيا) وفي المنطقة (المملكة
السعودية) واقوية مركز السودان الافريقي والعربي لن يتم بمجرد ان تتخلي الخارجية
عن نهج الولاء في تعيين اعضاء السلك الدبلوماسي!! بل يقتضي ايضا ان تعي الخارجية
أولا وتشرح لحكومتها ثانياً ان المصالحة مع العالم تمر عبر بوابة وحيدة هي بوابة
التصالح مع الشعب بقواه وفئاته كافة، فهل تعي دبلوماسيتنا ذلك؟؟
تعليقات
إرسال تعليق