التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أفريقيا المنقسمة

        إذا كانت الراية المرفوعة في أفريقيا والمعتمدة منذ ما يزيد علي نصف قرن هي راية الوحدة أو الاتحاد ، فإن الراية غير المرفوعة وغير المعتمدة ولكنها متبعة وتعمل بفعالية هي راية التقسيم ؛ ففي أقل عقدين إنقسمت ثلاث من أكبر وأعرق وأغني شعوب دول القاة الافريقية ، وهي علي التوالي : اثيوبيا والكونغو والسودان. والأخير يعد أكبر بلدان افريقيا طراً قبل ان ينقسم في مثل هذه الأيام من العام الماضي ،
      علي أية حال ليست المسألة فقط مسألة فشل في إدارة التنوع كما يفسرها البعض لأن الفشل في إدارة التنوع لا يبرر جعل التقسيم نتيجة حتميه له ، بقدر ما يبرر البحث عن صيغة معادلة أخري للحكم . ففي كل تلك الدول التي انقسمت كانت الأزمة أزمة حكم شمولي متسلط (منقستو هيلامريام/موبوتو سيسي سيكو/ عمر البشير) والغريب في الأمر ان الانقسام دائماً يحدث مع انتهاءأو تراخي قبضة الحكم المركزي المتسلط (سقوط منقستو وموبوتو ،وضبط حكم البشير بموجب إتفاق سلام برعاية دولية) وكأن هذة الدول كانت موحده بالقوة ..وهذا غير سليم لأن تلك الدول كانت موحدة طوعياً حتي قبل حكم أولئك الجبابرة ؛ وكل ما حدث هو ان بعض المعارضين والثوار التبس عليهم الامر أو ألبسوه هم علي قواعدهم وشعوبهم وأوهموهم بأن الانفصال هو الحل السحري لمشاكلهم وان ما هم فيه من معاناة هو بسبب تجبر العرقية الأخري وذلك لتحقيق مأارب النخب . والنماذج الثلاث تثبت بوضوح أن التقسيم ليس حلاً لمعاناة تلك الشعوب خصوصاً تلك التي تستغل أو تنفصل (أريتريا/الكونغوبرازافيل/جنوب السودان) فكل تلك الشعوب استبدلت أيدولوجية تسلطية بأخري وطاغية بآخر.
      ثمة ملاحظة مهمة جداً هي ان في الحالتين الأوليين لم يكن هناك ثمة رابط أو صلة يمكن تتبعها واعتمادها في دراسة ظاهرة الانقسامات لأنه حدث لمجرد جود إختلافات تاريخية وعرقية (مثل ماهو حادث في معظم دول القارة،بل ودول العالم اجمع) واجتمعت معها عوامل البطش السياسي والضوائق الاقتصادية والمجاعات ؛ مايجعل امر تكراره غيرمتوقع في مناطق أخري من القارة علي الأقل في المدي المنظور..
         لكن في حالة السودان فان إنقسام أتي علي خلفية تباين حضاري واضح وجلي (ديني/ثقافي) بدت فيه ثنائية الإسلام والمسيحية ، العروبه والزنوجه ،  هي الطاغية والغالبة وعلي خطاب المتصارعين ،
        الخطير في الأمر هو أن العوامل التي ( أريد لها ) ان تكون فاعلة في تقسيم السودان تتوافر في كل دول الربط بين أفريقيا شمال الصحراء وجنوبه ، أي الحزام الذي يبدأ من القرن الافريقي وسواحل المحيط الهندي شرقا ولا ينتهي إلا بالسنغال وموريتانيا علي سواحل الاطلنطي في الغرب الافريقي.
       هذا يعني أن معظم دول هذا الحزام (والذي يسمي أيضاً الحزام السوداني) عرضة للإنقسام علي مذبح ذات العامل الحضاري ، وتعتبر نيجيريا (أكبر دول هذا الحزام) والتي نجت سابقاً من خطر التقسيم ؛ الأكثر عرضة له حالياً وذلك بفعل التوترات والنزاعات الدينية المسلحة علي أراضيها وبفعل نشا الجماعات المتمردة كجماعة بوكو حرام المتعصبة ومتمردي دلتا النيجر .
          لقد تبنت حكومات القارة في السابق موقف مبدئي قوي ورافض للنزعات الانفصالية والانقسامية ، لكن مع تراخي تلك (المبدئية) ينبغي التأكيد علي حقيقتين
أولاهما : ان التقسيم في حد ذاته ليس خطراً وإنما الخطر في كون انه لا يمثل في ذاته حلاً لمشاكل ومعاناة شعوب بلادان القارة كما سبق وأشرت ،والخطر ايضاً في أرجحية صعود العقليات التقسيمية والتخريبية الي سدة الحكم في البلدان المنقسمة (المؤتمر الوطني /الحركة الشعبية ،عقب تقسيم السودان) ..
ثانيهما : وهو ان مجرد الرفض (المبدئي) لفكرة تقسيم الدول لن يحول دون حدوث الانقسامات ،وإنما يتطلب ذلك إعمال مبادئ أخري أكثر جذرية علي رأسها دعم قيام حكومات مدنية حديثة تتبني قيم ديمقراطية وتعمل قواعد حكم القانون وتعتمد  المبادئ التي من شأنها إحداث تنمية وطفرات اقتصادية بما يقود المجتمعات قدماً علي طريق التمدن والحداثة.   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...