التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السردية الغائبة (بين رواية حرب الكرامة و حرب الديمقراطية)

  مع حرب ابريل من العام الماضي و المستمرة حتي ابريل من هذا العام (٢٠٢٤م) تسيدت الساحة روايتان فقط،

رواية الجيش و هي: 

- ان قوات الدعم السريع تمردت عليه و خرجت عن طوعه (و هي التي خرجت من رحمه) و ان انتشارها شمالا الي مروي تم دون علمه ..

و رواية الدعم السريع وهي :

- ان قوات تتبع للجيش حاصرت بعض مقراته و اطلقت النار علي جنوده و انه دافع عن نفسه..

و هناك رواية ثانوية مساعدة لرواية الجيش؛ هي رواية قيادات المؤتمر الوطني و الحركة الاسلامية -النظام البائد- و تقول ان سبب الحرب هو الاتفاق الاطاري الذي كان يجري العمل علي ابرامه بين المكون العسكري الانقلابي (الجيش و مليشيا الدولة) و قوي الحرية و التغيير (المكون المدني)، و تمضي الرواية لتقول ان الحرية و التغيير حرضت و اغرت قائد الدعم السريع للانقلاب علي الجيش، ثم تطورت هذه الرواية لتتهم الحرية و التغيير بأنها توالي الدعم السريع و انها تحولت لجناح سياسي يناصره و يبرر موقفه و انتهاكاته.. الخ

لم ينفي الجيش رواية قادة النظام البائد و لم يتبناها صراحة (لأنه بادر للتفاوض علي الاتفاق الاطاري)؛ لكن ضمناً يفهم انه راضي عنها لأنها تصب في خانة تأييده، كما انه تبني صراحة الشق الذي يقول ان الحرية و التغيير اصبحت جناح سياسي للدعم السريع و قد قال قائد الجيش ذلك في تصريح شهير عقب لقاء اديس اببا الذي جمع تحالف تقدم بقائد الدعم السريع !

ما عدا ذلك لا رواية ثالثة!

كانت هناك مطالبات في اول ايام الحرب باجراء تحقيق مستقل في ملابسات و اسباب الصراع، لكن مع توسع الحرب و مضيها قدماً تعذرت القدرة علي اجراء ذلك التحقيق، و سكتت المطالبات!

عجز (المكون المدني) عن تقديم رواية تخصه و عجزت الحرية و التغيير عن ضحد الرواية الثانوية التي تتهمها بالتسبب في اشعال الحرب و في الانقلاب و بموالاة الدعم السريع في هذه الحرب و الاصطفاف معه و تحولها الي جناح سياسي و دبلوماسي له !

أي من الروايات المنتشرة لم تهتم بالاجابة علي الاسئلة الملحة كالسؤال :

متي بدأت العلاقة بين الكيزان و الجنجويد و بين البرهان و دقلو تسوء؟؟

بعد الثورة راجع الاسلاميين حساباتهم و وجدوا ان المدخل الوحيد للعودة هو علي اكتاف حليفهم العسكري (الجنجويد) و علي حسابه..

بدأ ذلك غير ملحوظ عندما هاجموا الحرية و التغيير و عابوا عليها تحالفها مع الجنجويد و عابوا (شراكة الدم)

ثم بدأوا يستعدون الدعم السريع اعلامياً و في الوسائط و اشتغلوا علي تلميع البرهان و كباشي .. استغرقت تلك المرحلة اكثر من عام، و كان المتوقع ان يكون ذلك مجرد تكتيك من الاسلاميين لاحداث خرق في تحالف الانتقال الهش بين المكونين العسكري و المدني، لكن من الواضح الان انها كانت استراتيجية تهدف لاشعال حرب (خاطفة) تنتهي بتحميل الدعم السريع كامل تركة انتهاكات و مخالفات الانقاذ (المؤتمر الوطني المنحل)، و اخراج الحرية و التغيير كذلك بعد دمغها بموالاة المليشيا المتمردة.. أي ضرب كل العصافير بطلقة واحدة! 

 بلغت قناعة الاسلاميين بحتمية التخلص من الدعم السريع ذروتها بعد أن فشل انقلاب ٢٥ اكتوبر في ان يمثل طوق نجاة ينتشل تنظيمهم و نظامهم، يمثل التخلص من الدعم السريع التخفف من حمولة ثقيلة تشمل كامل تركة العنف و جرائم الابادة في دارفور و الخرطوم؛ يريد الاسلاميين من الدعم السريع ان يحمل عنهم كامل سلة أوزار اكثر من ثلاثين عاماً من الاجرام مختلف الاشكال!

لكن العلامة الفارقة كانت تصريح البرهان في فبراير ٢٠٢٣م بعد الاتفاق الاطاري، وقال حينها (التزامنا بالاطاري مشروط بدمج الدعم السريع) !!!!

يومها لم يقل له أحد ما علاقة الاطاري و ثورة التغيير بدمج الدعم السريع؟

من الذي رفض أي حديث من المدنيين عن الشأن العسكري؟

أ ليس هو البرهان نفسه الذي اعتبر ان أي حديث من اامدنيين عن اصلاح المؤسسة العسكرية تدخل منهم في شأن لا يعنيهم و لا يفهمونه..

و من نصب حميدتي في منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، ثم نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي (رغم انف الوثيقة الدستورية المهملة و الباهتة و المغدورة)، و من رفعه الي ثاني ارفع رتبة في هيكل القوات المسلحة، و عيّنه هو و اخيه في المجلس العسكري الاعلي للقوات المسلحة في سابقة فريدة في تاريخ الجيش السوداني و ربما جيوش العالم كلها (ان يكون اخوين اعضاء في اعلي مجلس عسكري)!! و من عيّن عبد الرحيم دقلو في مجلس ادارة شركة زادنا العالمية (الزراع الاقتصادي و التجاري الباطش فساداً للجيش)؟!!

البرهان يرفض حديث قوي الثورة عن اصلاح الجيش، اما تدخل الاسلاميين في الشأن العسكري و الاسلاميين المدنيين الذين نصبوا انفسهم امراء علي قادة الجيش؟ فلا ؟!!

هل يعقل ان تتمكن الحرية و التغيير من استمالة الدعم السريع الي جانبها بهذه البساطة و المليشيا أسسها الاسلاميون و كانت حتي لحظة اندلاع الحرب تغص بالضباط الموالين للتنظيم الاسلامي، و لم نسمع بضباط شيوعيين او بعثيين او حزب امة او مؤتمر سوداني في صف المليشيا؟؟

بل و لا تزال،

فاللواء عثمان عمليات ما هو تصنيفه السياسي؟

و النائب حسبو عبدالرحمن (عراب تأسيس المليشيا القبلية و الأب الروحي و السياسي للدعم السريع) ما هو لونه السياسي!

تم اشعال الحرب و اكتشف الاسلاميين حقيقتان؛ الاولي الجيدة، و الثانية سيئة:

* اما الجيدة فهي ان روايتهم نجحت و تسيدت المشهد و لقيت قبول واسع و ان الجيش -الجيش الذي يخترقون قيادته و يوظفونه لخدمة التنظيم- يحظي بدعم و تأييد شعبي غير مسبوق، لم يحظي به حتي إبان حروب الجنوب و دارفور، و ان الحرب نجحت كذلك في اعادة ادماج الاسلاميين في المسرح السياسي و اعادت تقديم قياداتهم التي خرجت من السجون..

* اما السيئة فهي؛ ان المعركة لن تكون سريعة و خاطفة، و ان المليشيا لم تتفكك بمجرد اعلانها مليشيا خارجة عن القانون و رفع تبني الدولة سياسيا و ماليا و اعلاميا لها..

بالنسبة للجيش و داعميه من الاسلاميين فإن تطاول امد الصراع و اتساع نطاقه خيار مقبول ان كان مقابله هو انتهاء الصراع قبل ان يضمن لهم تحسين مركزهم السياسي!

انهم لا يمانعون ان يدمروا البلد و يحرقوا و يهلكوا الزرع و النسل و يهدروا مستقبل اجيال، فقط في سبيل ان يجهضوا التغيير و حركة ديسمبر!!

غابت الرواية الثالثة لأن قوي الثورة في نواتها الصلبة قد تم تفتيتها (تجمع المهنيين و لجان المقاومة) لصالح النظام البائد؛ و ان كانت قوي سياسية محسوبة علي الثورة قد ساهمت في ذلك التفتيت بدافع الطموح في السيطرة علي الانتقال و تحويله الي سلطة تضمن لهم نصيب كبير في كيكة النفوذ بعد الانتقال.. و بذلك هم افشلوا الانتقال؛ ثم عجزوا عن تقديم سردية واقعية لما جري في الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣م و يجري حتي اليوم!

كل محاولات الحرية و التغيير و حليفها الذي ترتاب فيه و يرتاب فيها (حمدوك و سكرتارية تقدم) لايقاف الحرب باءت بالفشل ليس بسبب ضعف تقدم و الحرية و التغيير فقط انما كذلك لعدم المامهم بطبيعة الصراع العسكري الذي تفجر!

فهذه الحرب لم تقع مصادفةً، فكما خطط الجيش و حلفاءه و بدعم اقليمي لذلك، فأن المليشيا كانت علي أهبة الاستعداد لها و بحليف اقليمي كذلك.

هذه الحرب لا تدور لمصلحة قادة الجيش و داعميهم من التيار الاسلامي (الذين اطلقوا الرصاصة الأولي كما يقال و الذين اججوا الخلاف بين الجيش و الدعم السريع) و لا مصلحة حلفاءهم من ضحايا و كارهي "الجنجويد" و لا لمصلحة قائد الجنجويد كذلك.. لان الأجندة الخارجية في هذه الحرب اعلي و اكبر من الأجندة المحلية ..

فهذه الحرب هي امتداد لنزاعات مابعد التغييرات الضخمة (الربيع العربي) و كما أسفرت كل تلك النزاعات في ليبيا و سوريا و اليمن و حتي مصر و تونس عن اجهاض التحولات السياسية ثم كهدف ثانوي اقصاء الاخوان المسلمين بعد سانحة ظن فيها الجميع انها سانحة الاخوان.. 

 لن يكون اخوان السودان استثناءاً من سيناريوهات ما بعد اجهاض التحولات و ان كانوا استثناءاً مما قبله بحكم انهم من اسقطهم التغيير هنا علي عكس حال (أخوانهم) في باقي النماذج.. فبمجرد التأكد من تحقيق الهدف الرئيسي سيتم الانتقال الي الهدف الثانوي و هو التخلص من الأخوان المسلمين نهائياً.

اذ يبدو ان حقب الاخوان قد انتهت تماماً من تركيا و حتي غزة. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم تفريغ الجامعات والمعاهد من اي مضمون واضحت الدرجات العلمية مجرد القاب مملكة في غير موضعها...     فاحاديث الرجل لا توحي بشئ في هذا المضمار.. التخصص، كما ان المعلومات المتوافرة في قصاصات الصحف ولقاءات الاذعة لم تفصح عن شئ ايضا!    السيرة الذاتية المتوافرة علي موقعي البرلمان السوداني 'المجلس الوطني' و البرلمان العربي تقول ان البروف-الشيخ حاصل علي بكالريوس العلوم في الفيزياء و ايضا بكالريوس الاداب-علوم سياسية من جامعة الخرطوم! ثم دكتوراة فلسفة العلوم من جامعة كيمبردج. اي شهادتين بكالريوس و شهادة دكتوراة. مامن اشارة لدرجة بروفسير "بروف" والتي يبدو ان زملاءه في السلطة والاعلام هم من منحوه اياها!!    سيرة ذاتية متناقضة وملتبسة تمثل خير عنوان للشخصية التي تمثلها وللادوار السياسية والتنفيذية التي لعبتها!    ابرز ظهور لشخصية الشيخ-البروف كان ابان صراع و مفاصلة الاسلاموين، حينها انحاز البروف لف

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بينها ع

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانتهازيين علي اختلاف مشاربهم ( مؤتمر وطني، و مؤتمر شعبي،اخوان مسلمين، سلفيين، سبدرات، وابوكلابيش، والراحل شدو، اتحاديين الميرغني، و حاتم السر، و الدقير، و احمد بلال، واشراقة سيد، و احزاب امة مسار، و نهار، و مبارك المهدي، وحسن اسماعيل.. الخ ) و غيرهم يحاولون جميعا تصوير الأمر علي انه يعني سقوط البشير لوحده!   البشير لم يسقط وحده، فهو يرمز لعهد باكمله، و يرمز لاسلوب في الحكم و الإدارة وتسيير الشأن العام ( السياسة )، و بسقوطه سقط مجمل ذلك العهد و اسلوب الحكم و السياسة و الادارة..   و سقط ايضا كل من اعانوه او اشتركوا معه و كانوا جزء من نظامه في اي مرحلة من مراحله المقيتة. و حين تقوم مؤسسات العدالة وتنهض لاداء دورها سيتم تحديد المسؤوليات بدقة و بميزانها الصارم و سيتم توضيح ( من فعل ماذا؟ و من تخاذل متي؟ ). البشير لم يحكم وحده حتي وان استبد في اخريات ايامه و سنوات، بل كان له مساعدون و اعوان في ذلك الاستبداد و داعمين لان