التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قضايا العرب ب"منظور مصر"

   طالما سمعنا "كمسلمات"عن موقع مصر و دورها المحوري في القرار العربي، و دورها المركزي في صراع العرب مع اسرائيل، و صراع الشرق العربي - الاسلامي مقابل الغرب. 

لكن في الواقع "دور مصر" لم يكن دوماً امراً مسلماً به، أو واقع لا مناص أو لا فكاك منه، لسبب بسيط هو ان دور مصر ليس ناتج عن قوة مصر الذاتية أو تقدمها العلمي أو الحضاري، انما نتج عن ان لها اسبقية في مضمار الدولة الحديثة و المجتمع المتمدن المعاصر في المنطقة، و هو مضمار تقدمت فيه مصر ليس برغبتها و ارادتها انما لاسباب تتعلق بالصراع العالمي علي المنطقة "الصراع العثماني و الفرنسي و الانجليزي" في القرن السابع عشر و ما تلته من القرون.

إذاً و ضعت الظروف مصر في مركز قائد لمنطقة مثقلة بارث عتيق فيما تبحث هي عن ذاتها و تخشي من الضياع في متاهة العصر الحديث سياسياً و اقتصادياً و حتي وجودياً.

لقد قدّمت الدول و الحكومات و ايضاً الشعوب و المجتمعات العربية و الاسلامية الاخري مصر و سلمتها زمام القيادة و لكن بشروط صعبة جداً، و هي ان تبقي مصر وفية لارث مثقل بالتقاليد البالية، و أسيرة لخطاب رجعي و لقيم التخلف! و لذا عندما فكرت مصر في قيادة المنطقة علي درب تحديث شائك علي عهد عبدالناصر "الاشتراكية و الجمهورية" انقلبت عليه رموز المنطقة و غلت يده و شلت تفكيره، و حينما فكرت في مزيد من الحداثة و "الانفتاح" في التعاطي مع الغرب و مع اسرائيل علي أيام  "السادات"، تم عزل مصر في المنطقة و محاصرتها تماماً، و لم تعد بعدها مصر الي الصف العربي و الاسلامي إلا ببطء شديد، و لم تكتمل العودة إلا بعد كارثة احتلال قوات صدام حسين للكويت!

إذاً كانت مصر في مركز القيادة و لكن تم تجريدها من امتيازات و سلطة و مقدرات القيادة! إذ كانت الموارد بيد غيرها و كذلك كان الاجندة و الاهداف و "الرغبات" تحدد بارادة غيرها. 

كانت قيادة مصر رمزية لحد بعيد و معنوية ايضاً"دول الطوق"، كان عليها ان تساير من يملكون الموارد و الامكانات في رغباتهم و امانيهم و بخطابهم!

اجادت مصر لعب دور القائد المعنوي بوعي أو دونه، اذ كانت تحت ضغط هائل داخلياً ناتج عن ضغط مجتمع "مصري" كبير له احتياجاته الملحة و هو نفسه متجاذب بين الماضي و المستقبل، و بين التخلف و الحداثة!

فتحت مصر باب السلام مع اسرائيل، و ابقته موارباً رغم انه جلب عليها ريحاً عاتية لنحو عقدين، ثم بعدها اصبح السلام أو علي الاقل خيار التفاوض و الحوار بين العرب و اسرائيل خيار مطروحاً بقوة.. لكنها بالمقابل فشلت في السير لاشواط ابعد في طريق السلام و فشلت في إقناع اسرائيل و الغربيين بتقديم تنازلات تجعل التواصل بين حكومات المنطقة من جهة و اسرائيل و الغرب من جهة ثانية امراً معقولاً و متصوراً.

كذلك فتحت من قبل باب التحديث و الانفتاح "الجمهورية و الاشتراكية و الديمقراطية ثم الليبرالية- ولو بالمفهوم الشرقي" لكنها تنكبت كل ذلك فوقفت في منتصف الطريق أو اقل قليلاً! و كان توقفها عائداً جزئياً لاسباب داخلية خاصة بالحكومة و المجتمع المصريين، و جزئياً بدفع اقليمي من القوي و الانظمة الممانعة للتغيير و الرافضة له.

هذا الواقع المعقد و المقيد لمصر حتم ان يكون لها منظور خاص بها حيال قضايا المنطقة، منظور طورته و تبنته للتعاطي مع القضايا بما لا يضر النظام البروقراطي و الامنوقراطي الحاكم، و بما لا يضعها "مصر" في مواجهة خاسرة مع دول اخري اقليمية متنفذة "ايران، السعودية، قطر، الامارات، تركيا، و سوريا" و كانت القائمة تضم في السابق عراق-صدام و ليبيا-القذافي.

منظور قادر علي استيعاب و مسايرة كل التناقضات دون المساس بمصالح مصر أو امنها القومي و بلا مساس بمسلمات و قنعات و قيم المجتمع المصري و اهتمامات و انشغالات "الفلاح الفصيح" المحلية و الاقليمية و الدولية ايضاً، و دون خسارة أي من حلفاءها و داعميها الاقليميين او الدوليين..

يتجلي منظور مصر في قضايا كسوريا و اليمن مثلاً، إذ ظلت مصر تعارض الاطاحة بنظام الاسد و دعم الحركات المتطرفة المسلحة؛ دون ان تخسر حلفاءها الخليجيين الذين تبنوا خيارات دعم الجيش الحر و جبهة النصرة و جيش الفتح و غيرها من "الجيوش" و التيارات! لأن دعم التيارات المتشددة و إسقاط انظمة عريقة سيكون وبالاً علي أمن مصر و نظام حكمها خصوصاً، و في اليمن لم تشارك مصر في الحلف و لم تعارضه انما اتخذت سبيلها بين ذلك عجباً "مسافة السكة"!

بينما في ليبيا اضطر نظام مصر للانحياز لطرف بسبب وضوح انتماء الطرف الثاني للتيار الاخواني الذي دخل نظام مصر معه في عداء و حرب مفتوحة لأسباب خاصة "داخلية"، و بسبب وضوح المحاور فيه (الأمارات و السعودية مقابل قطر و تركيا).

  اليوم تُعمل مصر منظورها فيما يتعلق بصفقة القرن التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فهي برغم صلتها الممتازة باميركا قررت الوقوف علي مسافة حتي تستكشف اتجاهات الريح؛ بينما انخرط البعض في ترحيب مبكر و ارسلوا سفراءهم لحضور احتفال إعلان الصفقة؛ و تقديم القدس و المستوطنات و غور الاردن علي طبق ذهبي لنتانياهو.. و بعد ان إتضح الرفض الاقليمي و الدولي تتحرك مصر و عبر اذرعها في الجامعة العربية و غيرها لمواكبة هذا الرفض.

منظور مصر الذي يستوعب كل التناقضات فيخلق منها توليفة يصدق أن نسميها "توليفة المتناقضات"؛ له ميزة عملية إذ أنه لا يصادم التغيير و لا يصادم المجتمع المحافظ! بل يستخدم أسلوباً مرناً في احتواء و امتصاص صدمات التحولات، و اسلوب التدرج البطئ في احداث تغيرات سياسية و اجتماعية و ثقافية؛ إن انظمة عديدة في المنطقة بحاجة ملحة لاستنساخ "منظور مصر" أو استلهامه لتطور منظور مماثل و ملائم لمركزها و موقفها.

• فبراير ٢٠٢٠م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...