ظل الجيش السوداني يتراوح في هيكله و انتشاره الجغرافي بين نمطين من التنظيم هما نظام المناطق و نظام الفرق، اما من حيث التنظيم الاداري و الفني (الهيئات، الادارات، الاسلحة، و الافرع ..الخ) فالشكل التنظيمي غير واضح المعالم..
علي مستوي انتشاره الجغرافي و هيكله الافقي -ان جاز القول- تبني الجيش تقسيم وحداته في الغالب الي مناطق اقليمية حيناً (قيادة المنطقة الوسطي -الابيض، قيادة المنطقة الشمالية-بشندي، قيادة المنطقة الشرقية-القضارف، القيادة الغربية- بالفاشر، و قيادة المنطقة الجنوبية-جوبا سابقاً، و علي راس كل تلك المناطق -المنطقة المركزية بالخرطوم و القيادة العامة) و علي اساس مختلط - مناطق اقليمية- محافظات حيناً بأن تم تقسيم القيادة الجنوبية (حينما كان الجنوب جزء من السودان) الي منطقة الاستوائية العسكرية و منطقة اعالي النيل العسكريةو منطقة بحر الغزال العسكرية، كان ذلك تبعاً لتقسيم الاقليم الجنوبي نفسه؛ كما اضاف اليها منطقة الخرطوم بحري العسكرية و منطقة امدرمان و منطقة جبل أولياء..
و نظام الفِرق حيناً آخر.
و غير معروف هل المعتبر هنا التقسيم الاقليمي المعتمد ادارياً ام ان هناك اعتبارات عسكرية أخري تدخل في اقامة 'المناطق العسكرية'.
اما نظام الفرق فيتم نشر الفرق العسكرية (فرقة في كل اقليم او ولاية كذلك حسب التقسيم الاداري و السياسي للدولة).
نظام الفرق هو النظام الاقدم و الذي كان متبع علي عهد (قوة دفاع السودان) أي العهد الاستعماري، فكانت الفرق (الأورطات) تنتشر علي طول البلاد بمسميات لا بارقام كما حدث لاحقاً (اورطة العرب/او النوبة/ الشرقية و الغربية .. الخ) و للمفارقة هناك مليشيا اليوم تحمل مسمي الاورطة الشرقية ولكن لم يتبين ما ان كان منشئوها يريدون لها ان تكون اورطة عرب أم نوبة ام بجة؟!!
علي حال الانتقال من نظام الي آخر ظل حال القوات يتغير دون ان يفهم الرأي العام او حتي السياسيين المغزي من ذلك .. و فيما يتظاهر العسكريون بأن هذا شان يعنيهم وحدهم الا ان الراجح عندي انهم انفسهم لا يعرفون الدواعي العسكرية لذلك و ان قيادتهم تعتمد اعتبارات سياسية محضة للتوجه و المفاضلة بين نظام الفرق و نظام المناطق..
و بنظرة تاريخية للانتقال بين النظامين:
- نظام الفرق ( من مرحلة تأسيس القوات حتي ١٩٥٤م)
- نظام المناطق حتي ١٩٨٠
- العودة لنظام الفرق حتي ١٩٨٣
- الرجوع لنظام المناطق حتي ١٩٨٧
- ثم العودة لنظام الفرق حتي ١٩٩٨
- فالرجوع لنظام المناطق حتي ٢٠٠٩
- فالعودة لنظام الفرق حتي الأن..
مع العلم ان قيادة الجيش بعد سقوط حكم البشير (و هو القائد العام الذي بقي لاطول مدة في تاريخ الجيش و ربما في تاريخ الجيوش ١٩٨٩-٢٠١٠م) اعلنت انها تبنت قرار العودة الي نظام المناطق؛ كما اعلنت العودة لإستحداث منصب القائد العام الذي الغاه البشير كجزء من ترتيبات التحول الديمقراطي و الاستعداد لخوض انتخابات ٢٠١٠م و لاستيفاء معايير النزاهة الدولية بموجب اتفاق نيفاشا، كما استعادت نظام الاركان العامة عوضاً عن نظام الاركان المشتركة الذي جاء ضمن ذات ترتيبات البشير لخوض انتخابات ٢٠١٠م (مستفيداً من اللبس الذي حدث للرأي العام و للسياسيين كذلك نتيجة تشابه المسمي مع القوات المشتركة و التي تشكلت من كتائب من الجيش و أخري من الجيش الشعبي و كان مأمولاً ان تكون نواة للجيش القوي اذا صوت الجنوبييون للوحدة، و كذلك مستغلاً للتشابه مع نظام الاركان المشتركة للجيش الاميركي و الذي جري استحداثه و ابتداعه سنة ١٩٨٢م كأفضل اسلوب لادارة و قيادة القوات الاميركية /و التي تتكون من الجيش و مشاة البحرية -المارينز و القوات البحرية و القوات الجوية و كل قسم من تلك القوات لديه القدرة علي العمل مستقلاً عن الآخرين/ المنفصلة عن بعضها تماماً و التي يصعب قيادتها بنظام عادي) لكن لا يبدو ان تلك العودة -لنظام المناطق الجغرافية- قد اكتملت !!!
كما لا أعرف بالضبط المنطق و الأسس التي بموجبها يتم ترفيع القوات الي قيادة منطقة .. و لا أستبعد ان يكون ذلك مجرد تخليط و تخبط عسكري، خصوصاً و ان الجيش اهمل شؤونه بسبب الانقلابات التي في الغالب يقودها ضباط صغار او متوسطي الرتب و الخبرة العسكرية فيقومون باقالة كبار الضباط ثم ينشغلون و يشغلون الجيش كله بالسياسة..
اما من حيث الهيكل الاداري و الفني فالسمة الغالبة هي ان القيادة العامة و علي رأسها القائد العام (و نائبه)، و هيئة الاركان العامة (رئيس اركان و نائب للادارة و آخر للعمليات، و آخر للتدريب و أخير للتوجيه) ثم مفتش عام، و الأخيرة وظيفة بلا مهام واضحة و بلا أهمية، هؤلاء هم في قمة هيكل الجيش.. يعاونهم فرع للشؤون المالية و آخر لشؤون الضباط، و هيئة او ادارة للاستخبارات و ادارة للتصنيع الحربي و ادارة للخدمات و الشؤون الاجتماعية و ادارة للقضاء العسكري و أخري للشرطة العسكرية..
و فنياً ينقسم الجيش لوحدات /أسلحة، هي سلاح المشاة، سلاح المدرعات، سلاح المدفعية و الصاروخية، سلاح المهندسين، سلاح الاشارة، سلاح المظلات أو القوات الخاصة، سلاح الدفاع الجوي، سلاح الصيانة، سلاح الأسلحة، (سلاح الكيمياء او الاسلحة غير التقليدية)، السلاح الجوي /او القوات الجوية، سلاح البحرية، سلاح حرس الحدود، الحرس الجهوري، سلاح الخدمات الطبية، و سلاح الموسيقي..
و فيما يعتبر المشاة -القوات البرية و القوات الجوية والقوات البحرية هي الافرع الرئيسية او القوة الضاربة للجيش، فان بقية الاسلحة هي اسلحة اسناد و ان كانت اهميتها تتفاوت فمثلا تعتبر المدرعات و المدفعية اسلحة ذات اهمية قصوي لما تمتلك من قوة نيران توفر عنصر (كثافة النيران و هو عنصر اساسي لخوض الحروب) و الدفاع الجوي لما يوفر من حماية ضرورية للقوات علي الارض.
هذا التقسيم الفني لا تأثير له علي انتشار القوات و ادارتها جغرافياً سواء بنظام الفرق او المناطق، اذ كل منطقة/فرقة تضم وحدات من تلك الاسلحة المساندة، اذ بكل منطقة او رقعة توجد (او ينبغي ان توجد) قاعدة جوية ولو فقط لاغراض النقل و الاجلاء و قاعدة بحرية ان امكن (وجود مساحة مائية) و كتائب او سرايا للدفاع الجوي و المدفعية و الدبابات و الخدمات الطبية و الاشارة و الصيانة و المهندسين . الخ.
من المهم جداً للسياسيين ان يلموا باساسيات نشر القوات و هيكلتها كعنصر مهم من عناصر التفكير الاستراتيجي و أسس الامن القومي، و من المهم كذلك ان يتحدثوا مع العسكر بلغتهم (التنظيم و اعادة التنظيم، او حتي اعادة التأسيس و البناء) التي يفهمونها جميعاً، لا ان يتحدثوا معهم بلغة سياسية (اصلاح و هيكلة المؤسسة العسكرية) . اذ يستغل بعض العسكريين تلك اللغة لخلق سوء تفاهم بين الجيش و الانظمة المدنية الحاكمة او بعض القوي المدنية، و يجنحوا لإستعداء قواعدهم (الجنود) و قطاع من العوام ضد السياسيين المدنيين و الحزبيين او ضد فئة منهم لصالح فئة أخري او حزب و لتبرير الانقلاب العسكري او التمهيد له .
اعادة تنظيم الجيش بعد سنوات من اخضاعه لهيمنة الاسلاميين و لتدخل مدنيين 'اسلاميين' في شؤونه بتواطؤ قيادات عسكرية لا تخفي انتماءها لتنظيم سياسي بما يتنافي مع ابجديات العمل العسكري و السياسي نفسه و بما يخالف القانون العام و القانون العسكري كذلك؛ و بما اصابه من فوضي ادت لتضعضع اوضاعه و اوضاع البلد باكمله، اعادة التنظيم تلك مهمة تتطلب جهد وطني متكامل سياسي و علمي و فني -عسكري.
و اعادة التنظيم تلك يجب ان تكون شاملة ترسم شكل نهائي للهيكل الاداري الافقي و الرأسي و للعلاقة بينهما، كما تعيد توضيح اسس و مبادئ الانضباط و قواعد التنظيم، بما في ذلك توضيح العلاقة بين ماهو استراتيجي و أمني و سياسي و ماهو فني عسكري بحت.. فلا تتغول السياسة فتؤثر علي الاعتبارات العسكرية الصرفة و لا تتجاوز الاعتبارات العسكرية فتطغي علي ماهو سياسي و استراتيجي قومي.
اعادة التنظيم بهذه الابعاد تعيد رسم العلاقة بين وزارة الدفاع و الجيش. و في السودان اصبح المفهوم المصرح به احياناً ان وزارة الدفاع تتبع للجيش؟ حيث ان الجيش او ضباطه الانقلابيين و لتمرير ابتلاع الدولة باكملها فان اول ما ابتلعوه كان وزارة الدفاع!! حتي ان مبني وزارة الدفاع بقي لسنوات داخل مقر قيادة الجيش و لم يخرج منها الا مؤخراً و بطريقة لا تلفت الانظار لتلك الرمزية؛ حين تم تخصيص مبني صغير لها بشارع النيل، دون ان يتساءل احد لماذا تم هذا الانتقال و ما دلالاته !!
و للمفارقة فان قائد الجيش لسنوات (لفترات في عهد الرئيس نميري و طوال عهد البشير) كان هو رئيس الدولة في ذات الوقت بينما مَنح منصب وزارة الدفاع لأحد اعوانه من المقربين؛ في علاقة وملتبسة؛ حيث يرأس رأس الحكومة وزير الدفاع بينما يرأس وزير الدفاع قائد الجيش و الذي هو في نفس الوقت رئيس الحكومة !!
لتجنب كل هذا التخليط؛ فان اعادة التنظيم يجب ان تتضمن تدابير تضع حد نهائي للنزعات التمرد بما فيها النزعات الانقلابية لدي الضباط من متوسطي وصغار الرتب فهؤلاء تحديداً هم من يعبثون بهيكل الحكم و تنظيم الجيش ليلائم مقاسهم الصغير الذي يسعون دوماً لتضخيمه. و في ذات الوقت يتخلص الجيش بشكل نهائي من الحاجة المستمرة للتدابير الامنية لادماج المتمردين في صفوفه.
تعليقات
إرسال تعليق