تتحدث اميركا و بلدان الاتحاد الاوروبي و بريطانيا كثيراً عن دعم الديمقراطيات و المجتمع المدني و (القطاع الخاص) في بلدان العالم الثالث.. لكن في الواقع دعم الحكومات الغربية لنظم و تنظيمات الاستبداد لا يقارن بما تتحدث عنه!
و في الواقع تحظي الجماعات و المؤسسات المساندة للدكتاتوريات بدعم كبير من حكوماتها و من حكومات اجنبية أخري؛ و لا يقتصر الامر علي صلات مشبوهة بالفساد بمجموعات مرتبطة بالصين و روسيا؛ انما تتجاوزها الي رعاية و تمويل من حكومات ثرية في منطقة الشرق الاوسط و هي حكومات يصفها البيت الأبيض و 10 داونغ استريت و قصر الإليزيه بأنها حكومات حليفة لها (الخليج)!!
لسنا بصدد تقليب ملفات الارتباط و التحالفات القديمة بين الانظمة الغربية و انظمة (و تنظيمات) الاستبداد في الشرق الاوسط و العالم الثالث ..
و ان كانت هذه الارتباطات لا تزال وثيقة بمبرر ان تلك الانظمة "الاستبدادية" هي حكومات امر واقع De facto ؛ انما و حتي بعد ان بدأت الحكومات الغربية تبتعد قليلاً عن تلك الأنظمة و تطالب قادتها بالاستجابة لشعوبها -و التنحي و تحاربها احياناً (صدام حسين، بشار الاسد، القذافي، مبارك-السيسي، زين العابدين بن علي .. الخ) فإن صلاتها بها بقيت قوية عبر خطوط خلفية غير مرئية و كذلك عبر حلفاء آخرين ..
فالأنظمة الغربية لديها نقطة ضعف في ما يتعلق ب"البترودولار" و ما تسميه بالمصالح الاقتصادية، فمع سعي الولايات المتحدة للتخلص من حاجتها لنفط الخليج و الذي مثل نقطة ضعف استراتيجية في سياستها في المنطقة و مع نجاحها في ذلك عبر استخراج البترول الصخري .. الا انها (و بقية الانظمة الغربية) بقيت اسيرة للمصالح الاقتصادية الضخمة التي تربطها بدول الخليج - تربطها معها عقود تبادلات تجارية بمبالغ فلكية بدءاً من السلاح و حتي مستحضرات التجميل ..
و لقد سعت دول الخليج بوعي كبير الي مضاعفة استثماراتها في الاسواق و البورصات الغربية و الاستثمار في مختلف الشركات من السلاح و الطاقة و الدواء الي الطيران و الاعلام "الفضائيات التلفزيونية و الصحافة و السينما" و الي الرياضة و تكنلوجيا المعلومات و شركات وسائط التواصل الاجتماعي.. الخ كل ذلك بغرض رئيس هو التأثير علي القرار السياسي عبر شركاءهم في تلك "الكارتيلات: التي تمثل غيلان الرأسمالية..
تمثل الاستثمارات في كبريات الصحف الغربية (الاميركية تحديداً) كالواشنطون بوسط و نيويورك تايمز، و مراكز البحث السياسي (الثينك-تانكس) كمركز العالم العربي في باريس و مراكز كارنيغي و بروكنز و التي فتحت لها فروع في الشرق الأوسط بتمويل شرق-اوسطي، و الاستثمار في الجامعات الغربية و التي فتحت لها فروع في عواصم خليجية .. تمثل الجزء الظاهر فقط من تأثير المال السياسي للانظمة الاستبدادية في قلب النظام الديمقراطي.
هذه الاستثمارات تمثل وسادة مالية قوية مقاومة للصدمات السياسية و "الحضارية ايضاً" و مخففة لاختلاف وجهات النظر فيما يتعلق بتقاطعات السياسة الدولية خصوصاً ما يتعلق منها بالشرق الاوسط و اسيا الوسطي (افغانستان و العراق و الصومال و حتي الساحل الافريقي..)
و لقد انتبه الخليجيون بذكاء و مبكراً الي ان ملف فلسطين و دعم اسرائيل ليس خاضع للمساومة بالنسبة للغربيين و لاميركا تحديداً فاسقطوه من اولوياتهم بل ساروا فيه اشواط "الاتفاقية الابراهيمية" ارضاءاً لواشنطون و للتيار اليميني الأشد تطرفاً فيها !!
المهم، لم تتخلي الدول الغربية عن صلاتها بالحكومات الاستبدادية في البلدان الشرق-اوسطية القابلة للتحول نحو الديمقراطية (لأن تلك البلدان اضحت في أمس الحاجة للديمقراطية الأن) انما اوكلت هذا الملف لحلفاءها الخليجيين يتصرفوا فيه كيفما يحلو لهم مع تدخلات غربية علي استحياء ارضاءاً لجماعات حقوق الانسان و لتيارات اليسار/ و نشطاء البيئة "المزعجين" في الغرب!
لم تدعم الانظمة الغربية الاستبداد ممثلاً في الحكومات انما تجاوزتها الي دعم جماعات اليمين المتطرف الاصولي الاسلامي طوال عقود الستينات و السبعينات و الثمانينات.. كان ذلك بمبررات مكافحة الشيوعية علي ايام الحرب الباردة، تزامن مع ذلك دعم خليجي لذات الجماعات بذات المبررات اضافة لمبررات خاصة (مواجهة المد الناصري و القومي) ..
و مع فترة التحولات العالمية و صعود وتيرة الحرب علي الارهاب الاصولي و التخلي عن دعم حركات الاسلام السياسي لم يواكبه نفس الاتجاه خليجياً الا في اعقاب ثورات الربيع العربي!
و حتي بعد الربيع العربي فانه ليست كل انظمة الخليج علي قلب رجل واحد فيما يتعلق بقطع تمويل الاسلام السياسي، اذ تولت قطر بشكل علني قيادة هذا التيار مالياً و سياسياً مع تأييد من دول خليجية أخري (الكويت).
دعم الاسلام الاصولي و تمويله (كتيار فكري مناهض للحداثة و للديمقراطية) بدأ مع تطور فكرة البنوك الاسلامية (بنك دبي الاسلامي ١٩٧٤م) ثم تناسلت المصارف (الاسلامية) و نوافذ التمويل ذات الصيغ الاسلامية في جميع انحاء العالم بما في ذلك عواصم المال الكبري (لندن و باريس و نيويورك)..
ان البنوك الاسلامية ليست بنوك تجارية و لا تعني بخدمة الاقتصاد انما هي "بنوك سياسية و ايدولوجية من طراز نادر و غير مسبوق" و لأن اكبر سوق لهذه البنوك كان السودان حيث تم قبول هذا النمط في السودان عام ١٩٧٨م حينها لم يكن القانون السوداني التجاري "قانون الشركات ١٩٢٥م" يسمح بهذا النشاط لكن الدولة (التي تبنت الاتجاه الاصولي الاسلامي) شرعت قانون خاص منفصل لبنك يعمل بالواجهة الاسلامية.. تناسلت بعده البنوك "الاسلامية" و الي العام ١٩٨٩م حين سيطرت ايدولوجيا الاسلام السياسي علي السودان تم الغاء نمط البنوك "التقليدية" و اصبح الحقل المالي و التجاري السوداني ملعب مستباح للبنوك الاسلامية تسيدت الساحة بعدها و حتي تاريخه، و بمهمة واحدة هي تمكين طبقة الاقتصاديين الموالين لايدلوجيا الاسلام السياسي مهما كان الثمن و مهما كانت الخسائر !!!
ثم ان البنوك الاسلاموية تمولت بالأساس بمال اجنبي (خليجي) و هو مال سياسي بامتياز، و في المقام الاول مخابراتي، و بالتالي هو غير معني بالاضرار الاقتصادية و الاجتماعية التي تلحق بالمجتمع و الدولة، فكل ما يهم هو تحقيق نتائج سياسية و ترسيخ الايدولوجيا المعنية!
كما ان طبقة الاقتصاديين الملتحقين بايدلوجيا الاسلام السياسي فتحت امامها اسواق العمل و اسواق الاستثمار في الخليج و ماليزيا و تركيا..الخ بل و اسواق مالية غربية كذلك، فان هذه الطبقة استقوت علي ما عداها و (تمكنت) عبر واجهاتها الراسمالية و (الطوعية) التي تخدم ايدولوجيا السلطة و تحارب بلا هوادة الفكر الديمقراطي و تضيق عليه و تخنقه ..
و مع سيطرة طبقة الاقتصاديين علي السوق برعاية (أمن الدولة) انقلبت سيطرتهم علي الدولة نفسها و أمنها !! فاصبحت هي الآمر الناهي و اصبح كل شئ يتم لمصلحتها وحدها..
علي ذلك، فان كل الاحاديث و المحاولات ل"دعم الديمقراطية" و دعم المجتمع المدني -الديمقراطي كانت تذهب ادراج الرياح، كما يذهب قسم معتبر منها لجيوب اقتصاديي الدولة الجديدة انفسهم!
و لن تتمكن الانظمة و الحكومات الغربية من دعم الديمقراطيات في المنطقة بفتات موائد مصالحها مع انظمة الخليج و غير الخليج!! انما سيبقي مجرد حديث لارضاء النفس، و ارضاء نرجسية التيارات الليبرالية في الغرب، فيما سيتقوي الاستبداد في العالم و يكون قادر علي ايجاد قدم له في الساحة الغربية ذاتها كما فعل قبل سنوات عبر "كامبيرج اناليتكا" في اوروبا و في الولايات المتحدة الاميركية نفسها.
ان دعم الديمقراطيات في الشرق -و الاشرق الاوسط- و الجنوب يحتاج الي مقاربة جديدة كلياُ، بحيث لا تقتصر علي كسور من موازنات (دافع الضرائب الغربي -كما يحلو للاعلام و الساسة قوله في الغرب) انما لابد ان تشمل موازنات الحلفاء الذين كانت خزائنهم علي الدوام مفتوحة لتنظيمات الاستبداد و جماعات الارهاب الأصولي.. و ان لا يتوقف دعم الديمقراطية علي تمويل انشطة منظمات "النخبة" انما يتعداها -و هذا هو الأهم- الي تمكين المجتمع الديمقراطي من بناء شبكة علاقاته الاقتصادية؛ و تأسيس بنية مالية قوية؛ و اكتساب المقدرة علي تمويل نفسه في المستقبل القريب - Raise Funding - و علي ادماج القطاع الخاص في الديمقراطيات الناشئة في اسواق الاقتصاد المعولم. فبذلك فقط تتأكد مقدرة المجتمع الديمقراطي علي مجابهة غيلان الاستبداد.
*أنور محمد سليمان
- قانوني / باحث
تعليقات
إرسال تعليق