التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ارتباط المشروع الاسلامي في السودان بالاستبداد

   بالنسبة لاغلب الساسة السودانيين فان الرئيس الاسبق "و المخلوع كذلك" جعفر نميري هو من قصم ظهر مؤسسات الدولة السودانية و مؤسسات المجتمع، هو من تبني نهج الاحلال و الابدال في جهاز الدولة بتسكين الموالين و مضايقة غيرهم.. و هو من اباح كسر اللوائح و التعهدات بحجة انها "ليست قرآن و لا انجيل"، و هو من احدث اكبر هزة في منظومة الحقوق و القوانين حين القي بكل التراث و الخبرة القانونية السودانية المستمدة من نهج القانون العام في إرشيف النسيان و استلف قوانين و تجربة من منظومة القانون القاري و مدونة القوانين العثمانية في 1973م قبل ان يتحول في 1983 الي نهج القوانين الدينية (التوجه الاسلامي لماذا؟) هذه التقلبات كان لها اثر حاسم في انهيار منظومة و ثقافة الحقوق الوطنية في السودان..

اما بالنسبة للاسلاميين فان جعفر نميري هو رائد التحول الاسلامي و هو امام المسلمين في السودان الذي "تنعقد له البيعة"!! فجعفر نميري هو الذي فرض قوانين العقوبات الدينية و قانون القضاء الديني "قانون اصول الاحكام" كل ذلك بقوة الأمن و قوة سلاح الدولة!
وهو الذي مكن لتجربة البنوك الاسلامية "فيصل، التضامن.. الخ" و تجربة شركات التأمين الاسلامية و هو الذي مكن لمنظمات العمل "الطوعي"  الموالي للاسلام السياسي " منظمة الدعوة الاسلامية و صويحباتها"..
لذا فان التحول الاسلامي و الصحوة الدينية فرضت في السودان بقوة السلطة المستبدة..
و بعد جعفر نميري أتي الاسلاميين بعمر البشير في تجربة استبداد ديني خاصة بتيار الاسلام السياسي السوداني، و عبر تجربة بيوت الاشباح و الصالح العام و التمكين في الحكومة و في القطاع الخاص "الحر" فرض الاسلاميين رؤيتهم للمشروع الاسلامي في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع..
اعتبر الاسلاميون انهم حملة رسالة "المشروع الرسالي" و سموا انفسهم "صحابة القرن العشرين" و "الربانيون" في حين ان رسالتهم تم فرضها بالاكراه و في واحدة من تجارب الاستبداد المعاصر التي تتفوق حتي علي تجارب الاستبداد في عصر يزيد بن معاوية و الحجاج و ابو جعفر المنصور "السفاح".. الخ
مثلما تتفوق علي نظيراتها "البلشفية و النازية و الفاشية، و تجارب شيعة ايران و قوميو العراق و سوريا و ناصريو مصر و ساداتها و مباركيوها و نظام بول بوت في كمبوديا و بينوشيه الدموي في شيلي - اميركا الجنوبية"..
النهج الاستبدادي الديني في السودان في عهد نميري ثم البشير يثير فرضية واحدة هي المشروع السياسي الاسلام لا يقوم له ساق الا في حماية نظام قابض امنياً و قامع و مستبد و انه مشروع رخو و متسلق.. فالقاسم المشترك بين اواخر عهد نميري و اوائل عهد البشير هو "الترابي" و اعوانه، فالترابي كان وزير عدل نميري في اخر سنواته و كان رئيس برلمان البشير و امين تنظيمه السياسي و احمد عبد الرحمن كان وزير داخلية لنظام "امن الدولة" النميري؛ فيما البشير وظف كل قيادات الحركة الاسلامية و "مكنهم" من كل مقدرات الدولة و بحسب عباراته هو وضع كل امكانات الدولة في خدمة الحركة الاسلامية!
و ان كان خلع جعفر نميري و اسقاط نظامه لم يحتسب ضد الاسلاميين لأن دموية نظام النميري تفرقت من اقصي اليسار الي اقصي اليمين "التقليدي و غير التقليدي" كما ان الجميع قاسموه مقاعد الاتحاد الاشتراكي في مرحلة من المراحل، الا ان خلع البشير و سقوط نظامه وضع الاسلاميين في الزاوية تماماً.
و اذا كانت مفاصلة العام 1999 بين البشير و الترابي و التي اسفر عنها انقسام الاسلاميين الي المؤتمرين الوطني و الشعبي، قد دفعت الترابي الي اجراء مراجعة واسعة و تقييم للموقف "كسب الحركة الاسلامية لإثني عشر السنين" و اعلن حينها انه سيكرس بقية حياته السياسية للدفاع عن الحريات "امام الحريات".. فان التغيير الذي جري في ديسمبر لا يجد في صفوف الاسلاميين من يملك المقدرة و لا الجرأة لعمل تقييم و مراجعة اكثر جذرية حتي ينقذ ما يمكن انقاذه من ارث اخوان السودان!
لتبقي وصمة الاستبدادية و معاونة المستبدين و الطغاة تسود وجوه الاسلاميين، و ترجح ان تكون تجربة الحكم 1989 الي 2019 هي ذروة الفعالية السياسية و الفكرية و الفقهية لاسلاميي السودان و ليس بعدها الا الانزواء و التضاءل و "التحلل".

- مايو ٢٠٢١م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...