الحركة الاسلامية السودانية لها حالين هما الاستضعاف و التمكين.. و لها في كل حال مقال و فعل مختلفين ..!
فالحركة الاسلامية السودانية (الدينمو المحرك للمؤتمر الوطني و لحكومات الانقاذ ١٩٨٩-٢٠١٩م) و لشيخهما و مفكرها الراحل حسن الترابي فقهين في السياسة "الشرعية" تستمدهما من الدين او بالاصح من الاجتهادات الدينية، او ربما هما فقهين للتدين تستمدهما من السياسة و تلوناتها و مراوغاتها؛ هما فقه الاستضعاف و فقه التمكين..
فقه استضعاف؛ يخول للاسلاميين و تنظيمهم ان يرفعوا من الدين النصوص التي تبرر لهم اتخاذ مواقف سياسية معينة (في الغالب مواقف لينة و مهادنة) و قد استخدموا فقه الاستضعاف في مراحل تكوين تنظيمهم الاولي و مرحلة تحالفهم مع نظام جعفر نميري و حتي مرحلة الديمقراطية الثانية..
يخول لهم هذا الفقه السكوت و حتي المشاركة في سياسات و اعمال تخالف القانون "و الشرع" و الوجدان السليم و المروءة كذلك؛ فبموجب فقه الاستضعاف تحالفوا مع انظمة و حكومات و دول (علمانية و كافرة و ملحدة و فاسقة) و تبنوا مواقف (ليبرالية متحررة) من قضايا المرأة و الحريات الشخصية ..
و يبررون تلك السياسات لعضويتهم و قاعدتهم بأنها ضرورية حتي يحافظوا علي سلامة تنظيمهم حتي يقوي عوده..
ابرز ما اقدموا عليه بموجب الاستضعاف هو (الكذب) و الكذب من اكبر الحرمات و المنهيات عنها ديناً و اخلاقاً، و من ابرز اكاذيبهم هو زعمهم في يونيو ١٩٨٩م ان انقلاب مجموعة البشير ليس من تدبيرهم و لا علاقة لهم به (لتدعيم تلك الكذبة دخل شيخهم الي السجن مع رموز السياسة من المدنيين) و انهم يدعمونه للمصلحة العامة فقط؛ بينما الحقيقة التي تكشفت مع الايام ان ذلك الانقلاب من بدايته و حتي منتهاه من تدبيرهم و تخطيطهم و تنفيذهم..
و فقه تمكين؛ و هو ما يخول لهم اتخاذ مواقف علي اعلي درجات التشدد و التطرف؛ و ذلك متي ما رأوا ان المكسب السياسي من اتخاذ تلك المواقف اكبر من الضرر الذي قد يلحق بهم، او متي ما رأوا ان جماعتهم اصبحت من القوة بحيث تتصدي لأي انتقاد او هجوم او أي اجراءات سياسية او قانونية ..
و هو الفقه الذي اصبح معتمداً مع بداية عقد التسعينات و بموجبه ارتكبوا الكثير من جرائم القتل و التعذيب و التشريد و الافقار و حتي الابادة الجماعية..
التمكين من الكتاب و السنة:
وردت كلمتي "الاستضعاف و التمكين" في القرآن في عدة مواضع الا انها جميعاً اشارت لمعني غير الذي اعتمدته الحركة الاسلامية و شيوخها و متسلطيها ..
فاشارات الاستضعاف وردت بمعني الاذلال "و نريد ان نمن علي الذين استضعفوا و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين" القصص/٥. و قوله تعالي "الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض.." النساء/٩٧.
في حين ان الاسلاميين في السودان لم يتعرضوا قط لمعشار الاستضعاف المذكور في القرآن او الذي عرضوا له خصومهم و "مواطنيهم كذلك"!!
اما مفردة "تمكين" فوردت مراراً في القرآن؛ (و لقد مكّنّاكم في الارض و جعانا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون) الاعراف. و (وكذلك مكّنّا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء و نصيب برحمتنا من نشاء و لا نضيع أجر المحسنين) يوسف. و عن ذي القرنين (انا مكّنّا له في الارض و آتيناه من كل شئ سببا..) الكهف.
و قوله تعالي (و الذين ان مكّن؟اهم في الارض اقاموا الصلاة و آتوا الزكاة..) الحج
و قوله (ولقد مكّنّاهم فيما ان مكّنّاكم فيه و جعلنا لهم سمعاً و ابصاراً و أفئدة فما أغني عنهم سمعهم و لا ابصارهم و لا افئدتهم من شئ) الاحقاف.
و قوله عز وجل (أ ولم يروا كما اهلكنا قبلهم من قرنٍ مكّنّاهم في الارض مالم نمكّنّ لكم و ارسلنا السماء عليهم مدراراً و جعلنا الانهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم و أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين)
و التمكين في القرآن لا يتأتي بالتجاوز و الفساد و النهب و الهرج (كثرة سفك الدماء) انما يتأتي بفضل الله و باتباع النهج القويم و تحري الحلال الطيب..
بل القرآن ذكر التمكين للعبرة لأنه لا يحول من عقاب الله فكم من الأمم التي مكّنّها الله في الأرض طغت فأخذها أخذ العزيز المقتدر، فكيف جعلت الحركة الاسلامية من التمكين نهج و برنامج و هو من سنن الله في الارض و في خلقه؟
الاسلامويين مكّنّوا انفسهم بأنفسهم و لم ينتظروا تمكين الله لهم؛ مكنوا انفسهم بغصب الحكم ثم بمال الدولة، و بمال الشعب، و بمال المخابرات "البنوك الاسلا-ربوية"، و بمناصب الدولة!!
الاسلامويين مكّنّوا لأنفسهم بالحرام ثم لم يأمروا بمعروف؛ و لم يتناهوا عن منكر اقترفوه.. بل سدروا في غيهم و فسادهم و طغيانهم.. و مع ذلك عندما حانت لحظة من لحظات سنن الله في الخلق (نزع السلطان) و لم يغني عنهم التمكين في شئ كما غيرهم من القرون كفروا بما كانوا يستشهدون به من آيات القرآن و طفقوا يصارعون سنن الله في خلقه و ارادوا ان يطال العقاب الذي استحقوه؛ ان يطال معهم كل أهل السودان!!!
ان "فقه الاستضعاف و التمكين" الذي اعتمدته الحركة الاسلامية طغي علي طريقة تفكير افرادها و تفكير دولتهم فاختلط فيها حابل الاستضعاف بنابل التمكين، لذا فما طبقوه بعد ١٩٨٩م لم يكن تمكيناً صرف، انما هو استضعاف ممتزج بتمكين!!
بموجب التمكين بعد ١٩٨٩م خول الاسلاميين لأنفسهم فصل آلاف العناصر من جهاز الدولة بلا حقوق ولا معاش!
كما خولوا لأنفسهم شغل تلك المناصب التي شغرت بمحازبين موالين حتي و ان افتقدوا للمعرفة اللازمة ..
ثم و منذ تاريخه اصبح شغل أي وظيفة حكومية عظم خطرها او كانت تافهة اصبح مشروطاً بالانتساب للجماعة!
و بموجبه خولوا لأنفسهم الاستيلاء علي اموال الناس (تبديل العملة) عبر حجزها كارصدة في البنوك في وقت كانت قيمة الجنيه تتآكل علي راس كل ساعة ما تسبب في افقار كثيرين و اغناء اخرين بلا سبب مشروع ..
كما خولوا لأنفسهم استخدام سياسات الدولة و قرارات الحكومة لملاحقة بقية الاثرياء الذين نجوا من مذبحة تبديل العملة .. و عبر قرارات دواوين الضرائب و الزكاة و الجمارك و سياسات البنك المركزي تسببوا في اخراج الكثير من التجار و الصناعيين من السوق و المنافسة لتخلوا الساحة التجارية و الاقتصادية لرأسماليين جدد موالين للسلطة.
و بموجبه عمدوا الي المال العام فتقاسموه عبر (الخصخصة) حين تم تقييم اصول الدولة بأبخس الاثمان و تملكوها !!
هذا التمكين اسفر عنه نشوء قطاع اقتصادي متسلق يعيش عالة علي الدولة و اقتصادها و لا يضيف أي قيمة.. ما خلق حالة عجز و شلل اقتصادي .
اصبحت الدولة فقيرة و التنظيم غني! و جعلت الدولة مع ذلك خادمة للتنظيم تلبي حاجاته و رغباته المتعاظمة و طموحه المريض في ان يصبح تنظيم عالمي!!
لذا حتي عندما واتت الدولة فرصة للتخلص من عبء التنظيم فان التنظيم اصر علي التشبث بعنق و عظام الدولة و عدم الفكاك منها في علاقة سرطانية .. ما يعني ان التنظيم لن يموت الا بعد ان تموت الدولة!
التمكين في قاموس منظمة الأمم المتحدة و المنظات الدولية الأخري
تستخدم المنظمة الأممية الدولية مصطلح التمكين Empowerment في ادبياتها كثيراً بشكل علني احياناً و غير معلن كثيراً..
الاستخدام الابرز له يأتي في مجال وظائف وكلات تلك المنظمة و المنظمات الدولية و حتي السفارات الغربية منها خصوصاً..
المعلن منها هو تمكين المرأة و الفئات الضعيفة (كالمعاقين مثلاً) فيما يعرف بالتمييز الايجابي؛ و لان المنظمة الأممية تقوم علي مبدأ رفض كل اشكال التمييز (علي اساس الدين/الجنس/العرق.. الخ) فان القائمين عليها ابتدعوا مفهوم التمييز الايجابي Affirmative Action ليمنحوا انفسهم مجال واسع لتمرير ساساتهم..
تقوم فكرة التمييز الايجابي لصالح المرأة و المعاقين في الوظائف علي انه في حالة تساوي امرأة او معوق مع ذكر او شخص غير معوق في استيفاء شرط شغل وظيفة بالمنظمة فإن الاولوية بموحب التمييز "الايجابي" تقتضي منح الوظيفة للمرأة او المعوق علي حساب الذكر او غير المعوق..
و بمقتضي ذلك فان القائمين علي امر التوظيف بمقدورهم تحديد من يستحق شغل الوظائف اذ ان مفهوم التمييز الايجابي يمنحهم سلطة تقديرية واسعة بلا ضوابط محددة.. و في بعض الاحيان يتم الغاء اجراءات التوظيف اذا لم يكن ضمن المتنافسين نساء ..
و بخلاف المرأة و المعوقين فان غير المعلن عنه هو ان هناك فئات اخري تتم اضافتها باعتبارها ايضاً فئات تتضرر من تمييز سلبي (علي أساس العرق او الجهة) و يجب ان تستفيد من "التمييز الايجابي"..
و بموجب هذا فن ان المنظمات و السفارات تعطي نفسها حق التدخل لاعادة تشكيل مراكز القوي الاقتصادية -الوظيفية في السودان !!
هذا هو المعلن من سياسة التوظيف و التشغيل في وكالات الامم المتحدة و غيرها من المنظمات الاجنبية العاملة بالسودان؛ اما غير المعلن فهو ان هناك ايضاً ما يشبه (الكوتا) لجهات عدة من بينها السلطة السياسية للحزب الحاكم (و جهازه الأمني) الذي تمكن عبر السيطرة علي تراخيص عمل المنظمات و تصاريح تنقل افرادها من فرص حصة من الوظائف لمنسوبي النظام، و هناك بالمقابل كوتا لبعض التنظيمات السياسية و التي حرصت بعد اقصاء كوادرها من العمل الحكومي و مضايقتهم في القطاع الخاص حرصت علي توجيه كوادرها للالتحاق بالوكالات الأممية و المنظمات الدولية- و علي ما يبدو انها تفرض علي كوادرها التي تلحقها بتلك المنظمات اشتراكات عضوية مختلفة بحيث تسهم في مالية الحزب- و يلاحظ وجود مكثف لعناصر الحزب الشيوعي و حزب الامة في المنظمات و وجود أقل لعناصر الحزب الاتحادي، فيما هناك كوتا ايضاً للعوائل المركزية المؤثرة في البلد كعوائل نظارات الادارة الاهلية و بيوت الطرق الصوفية و بعض الأسر التي لها ارتباط قديم بجهاز الدولة الوكنية و بالحكومات الاجنبية كذلك.
لم يهتم احد لا من مسؤولي الدولة و لا من المراقبين بتقصي "ظاهرة التمكين" في ردهات وكالات المنظمات الاممية او الدولية و السفارات الغربية في السودان ليس لاعتبار ان ذلك حق مطلق لتلك الجهات الدبلوماسية .. انما لأن الجميع كان يعمل بطرقه و اساليبه لتعظيم نصيبه من "كيكة" الوظائف الدولية؛ فحتي الحزب الحاكم (راعي التمكين الداخلي) نجح في تحصيل نصيب مهم من وظائف البعثات الاجنبية.. فبحكم سيطرته و امتلاكه لقرار السماح و تسهيل عمل تلك البعثات نحج في ان يفرض عليها قوائم افراد للعمل بها، كما ان البعثات الاجنبية دأبت علي تشغيل افراد من القوائم التي تقدمها لها الدولة (و تنظيمها) كرشوة حتي تحصل علي تسهيلات العمل و الحركة المطلوبة و بهذا فان تمكين التنظيم ظل يعمل حتي عبر اليات (التمكين الأممية و الدولية)!
التمكين كنهج اقتصادي :
في عرف الاقتصاديين التمكين نهج يستهدف تقوية كل الفئات الاجتماعية دون تمييز سياسي، تقوية فئة العمال و اتحاداتهم و نقاباتهم و تقوية الجمعيات المدنية و الاهلية و تقوية فئات المرأة و الطفل و الشباب و تقوية قطاع الاعمال الخاصة (القطاع الخاص) كل ذلك دون تمييز علي اساس السياسة او الدين او العرق .. الخ
و غرض هذا التمكين الاقتصادي هو جعل المجتمع في مركز يمكنه من مواجهة و مقاومة اي نزوع او ميل استبدادي للحكومة و النخب السياسية، و الحيلولة دون تشكيل نظام استحواز (احتكار) سياسي و اقتصادي يمنح السلطة مقدرة علي قهر المجتمع و يمكن المجتمع من ممارسة رقابة و توجيه علي السلطة السياسية و الادارية ..
أما تمكين فئة محدودة و علي اساس سياسي فهو سرقة و ليست شئ آخر.
تعليقات
إرسال تعليق