الحرب التي تشنها الدول و الحكومات ليست حدثاً عابراً يحدث كيفما اتفق، و لا حدث يتفاجأ به الناس بعد ان يستيقظوا صباحاً و ينطلقوا الي معايشهم كما حدث في حرب البرهان و دقلو التي نعيشها هذه!!
شن الحرب في القانون له ضوابط و كذلك لاعلان حالة الطوارئ و تطبيق الاحكام العرفية.
فمهما وقع و مهما يحدث من حوادث فإن لاعلان الحروب حتي تكون حروباً مشروعة من حيث القانون و الدستور ،فإنه لابد للدخول فيها من استيفاء ضوابط قانونية؛ من ذلك انه يجب ان يصادق البرلمان علي اعلان الحرب، و توافق عليه الحكومة بالضرورة، لا فقط ان يأمر قائد الجيش بشن عمليات حربية و يقول انها حرب كرامة فتصبح حرب مشروعة!!!
فالحرب الدائرة في السودان منذ انطلاقها (احداث المدينة الرياضية) و حتي تاريخه بعد انتشارها في نحو اثنتي عشر ولاية لا تزال مجرد "حوادث /و نزاعات مسلحة وعسكرية" و ليست حرب قانونية!
صحيح ان قائد الجيش "في حالة البرهان" و لأسباب الاضطراب و الفوضي الموروثة عن نظام البشير؛ هو في ذات الوقت "رئيس الدولة"، و نقبل بهذه الفرضية؛ الا ان رئاسته تشاركية بحكم انه يرأس مجلس سيادة و لا ينفرد في تقرير امور السيادة وحده!
"مجلس السيادة" هذه يشاركه فيه دقلو الذي يشن الحرب عليه، مع آخرون!
صحيح انه شتت شمل مجلس السيادة بقرارات انقلابية في اكتوبر ٢٠٢١م (شاركه فيها دقلو ايضاً) فعزل كل الاعضاء المدنيين و ابقي علي العسكريين و ممثلي الحركات! ثم عيّن مدنيين مكان الذين عزلهم! ثم عاد فعزل المدنيين الذين اختارهم وحده! ثم رجع فعزل ممثلي الحركات بعد الحرب لأنهم لم يؤيدوا قراره بشن الحرب و عيّن مكانهم ممثلين عن الحركات التي تسايره و تطيعه!
عليه فإن تمثيله للسيادة مشكوك و مطعون فيه.
اما موافقة الحكومة فكذلك مشروخ و مجروح ؛ فمجلس الوزراء الذين أتي بهم او ابقاهم بعد انقلابه علي الدستور فإن اكثر من نصفهم لم يؤيدوا الحرب الا بعد نحو عام من اندلاعها!! و تحت التهديد و الابتزاز بالعزل !!
فحرب البرهان عند اعلانها او شنها لم تحصل حتي علي تأييد حكومتها !!
فوق كل هذا و ذاك (عدم صحة الاعلان السيادي و عدم توفر الموافقة الحكومية من مجلس الوزراء) فان اعلان الحرب يجب ان يحصل علي تأييد البرلمان (المنتخب او المعين).. و حتي في حالة غياب البرلمان لأي سبب فإن الاعلان يسري الي حين انعقاد البرلمان و موافقته او رفضه لاعلان الرئيس و لمدة محددة (ستين يوم في الغالب) حتي ان لم ينعقد البرلمان يصبح قرار الحرب غير فعال.. أي يبطل تلقائياً.
اذاً لإعلان الحرب ينبغي ان يحرص الرئيس "الشرعي" علي انعقاد البرلمان للتصويت علي قرار الحرب.
بينما البرهان يستغل و يستفيد من حالة تغييب البرلمان تلك الحالة التي شاركته فيها القوي السياسية التي تحالفت او شاركته السلطة قبل انقلابه عليها!!
صحيح ان هناك تواطؤ علي تغييب البرلمان قبل الحرب؛ لكن ذلك لا يجعل قرار شن الحرب مشروعاً و قانونياً.. فحرب البرهان و دقلو كما اتضح من التحليل اعلاه لا يتوفر لها أدني سند قانوني ..
اما الاجراءات التي تلي اعلان الحرب (من اعلان لحالة الطوارئ و تطبيق الاحكام العرفية) فإنها في حرب البرهان و دقلو كذلك شابها قصور و خلط بين؛ فأولاً لم يتم اعلان حالة الطوارئ الا بعد شهور و فقط بسبب انتقاد "الناشطين" و المراقبين لسياسات الحكومة.
فوزراء و مسؤولي الحكومة مثلهم و سائر المواطنين باغتتهم الحرب و اصابتهم حالة النزوح و التشرد بشلل تام؛ جهاز الدولة المدني و الجهاز الخدمي (العام و الخاص) نفسه تعرض لشلل كامل؛ و لم يلتئم مجلس وزراء الحكومة الا بعد شهور عندما تم اعلان بورتسودان كعاصمة بديلة و مؤقتة!
اصدر رئيس الدولة /قائد الجيش اعلانات للطوارئ بعد شهور من الحرب، و كما درجت العادة في السودان اتجهت احكام الطوارئ تلك لجهة تعليق القانون المدني و منح اجهزة الاستخبارات العسكرية سلطات واسعة للاعتقال و المصادرة (فيما تمنح تلك الاجهزة نفسها سلطة الحكم بالاعدام كذلك !!) ..
بينما في الأصل ليس لحالة الطوارئ صلة بتعليق القانون المدني (قانون الجنايات و اجراءاتها و قوانين المعاملات المدنية - التعاقدية و اجراءاتها كذلك).
حالة الطوارئ شأن حكومي صرف و بموجبها تستطيع الدولة اللجوء للصرف من بند الطوارئ في القانون المالي للدولة (الموازنة العامة) فقط لا غير، هذا ان كان لها احتياط مالي للطوارئ و ليس كل شأنها طارئ كما هو الحال عندنا منذ عقود!
أما الشق المتعلق بتقييد الحريات (من حرية الحركة الي التملك الشخصي) فإنه لا يتم تقييده بقانون الطوارئ العام انما باعلان الاحكام العرفية و (سريان القانون العسكري) علي كامل التراب او المنطقة التي يدور فيها النزاع.
و لم تطبق الاحكام العرفية في السودان -علي ما أعلم- بحرفية قانونية خلال عهد الحكومات الوطنية اطلاقاً!
فإعلان سريان الاحكام العرفية يعني اولاً تعليق عمل الحكومة نفسها و تعليق صلاحيات مسؤوليها (المدنيين) و يصبح كل قائد منطقة هو -الحاكم العسكري- فيها! و لأننا في السودان و بسبب تطاول عهد حكم الانقلابات العسكرية؛ و تسلط حكومات خليط من حكم العسكر المتحالف مع مدنيين و احزاب سياسية؛ فان الاحكام العرفية لم تطبق قط بالشكل الكامل السليم.
بينما الشاهد في السودان فإن قائد الجيش "و رئيس الدولة في ذات الآن" حرص علي عدم تعليق سلطات الحكومة المدنية؛ بل شرع في انشاء تحالفات جديدة؛ و تمتين تحالفاته القديمة، و ليس بغرض توحيد الجبهة الوطنية (فقد مزقها كل ممزق)، و لا بغرض كسب الحرب، انما بغرض تأسيس شرعية سياسية له تمكنه من تشديد قبضته علي السلطة بعد ان فشل في تأسيس شرعيته علي انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م الذي سماه اجراء تصحيحي لمسار ثورة الاطاحة بحكم البشير و حزبه!
بمعني انه يريد شرعية سياسية عبر شن الحرب!
و مع ان احكام عرفية بدائية جداً تطبق في المناطق و المدن التي تشهد قتال؛ و حتي في التي لا تشهد قتال؛ فقادة الجيش و ضباطه غير ملمين بأسس تطبيق الاحكام العرفية و لا بمراعاة القانون الدولي الانساني!
فقادة الجيش بل حتي اصغر فرد "مستنفر- جندي غير نظامي" يأخذون القانون (العسكري) بيدهم فيعدمون الاسري و يسرقون الممتلكات (ولا يصادرونها؛ لأن المصادرة تذهب لخزانة الجيش بينما هم هنا يتقاسمونها فيما بينهم او يستأثر كل فرد بما وضع عليه يده، و هذا السلوك لم يتبع حتي في حروب القرون الوسطي). و طيران الجيش يقصف الاعيان المدنية و قوافل المساعدات التابعة للمنظمات الانسانية، كما حدث مع قافلة الصليب الاحمر التي كانت تجلي مدنيين في اول شهور الحرب؛ و قافلة الامم المتحدة التي كانت تجلب مساعدات طبية لعالقين في جنوب الخرطوم موخراُ، و ما حدث لمقر مكتب الأمم المتحدة للشؤون اانسانية في ولاية النيل الازرق مؤخراً.
اذا فشلنا و فشلت المساعي الدولية في وقف القتال؛ فإن واجبنا و واجبها ان تكثف الضغط علي كلا طرفي القتال ليخوضوا حربهم باحترافية لا بعقلية امراء حرب العصابات و تكتيكات عصابات الشوارع..
و ان نبين لمن يأتمرون بأمر "القائد" ان تلك الأوامر غير قانونية و بالتالي غير مبرئة لذمتهم و لا تصلح كدفع قانوني يحميهم من مواجهة المسؤولية القانونية عن مشاركتهم في القتال و ما ينجم عنه، سواء تمت مساءلتهم امام قضاء الاجنبي او القضاء الدولي او الوطني نفسه.
تعليقات
إرسال تعليق