فيما كان العالم من حولنا منخرطا في جدل ومنغمسا في ترف البحث عن المثقف الاكمل ومقارنا ومفاضلا بين مثقف البروج العاجية والمثقف العضوي كان علينا في السودان ولزهاء نصف قرن ان نختبر أنواعا أخري من المثقفين.. فعرفنا في السودان نمط المثقف المحارب والمثقف الحربي، وعلي الرغم من ان إقتران صفة مشتقة من مادة "الحرب" هو أمر غيرحميد وغير "مشكور" بالمطلق؛ الا اننا لم نملك حتي ترف الاختيار الذي حظي به "المستجير من الرمضاء بالنار" !!
وبنموذج المثقف المحارب نعني المثقف الذي (بعد ان حسم موقفه من قضايا مجتمعه وأعلن انحيازه لجانب البسطاء والفقراء والمسحوقين من ابناء شعبه) اختار ان يحمل بندقيته علي كتفه لتحقيق التصور الذي يحمله في رأسه والأمال التي يستكنها بين جوانحه... واوضح مثال علي نموذج وحالة المثقف المحارب هو العقيد الدكتور جون قرنق الذي قاتل دون تصوره لعدة عقود؛ ثم لما حانت لحظة قطف ثمار مجهوده غيبته يد المنون المدفوعة بيد آثمة.. ، ولم تتح له تلك الايادي فرصة تحقيقه ولا رؤية نموذجه للخير والحق وهو يتمثل ويتشكل حقيقة قائمة!
أما بنوذج المثقف الحربي فنعني المثقف الذي حصر جهده في لعب دور المحرض علي الحرب وعلي القتال من أجل "نصرة القضية، ونصرة المسحوقين والمهمشين في انحاء الوطن!)؛ وكذلك في توفير الامداد الاخلاقي والادبي والفلسفي لذلك القتال ليبقي مستعرا "حتي النصر" وتوفير الدعم النفسي والمعنوي للجنود بما يلزم لإستمرارهم ولإستمرار المعارك حتي يتحقق التصور المثالي الذي يتخيله أو يتوهمه في الغالب.
ابرز أمثلة علي علي نموذج المثقف الحربي هم الدكتور (المفكر) محمد جلال هاشم، والدكتور (الاديب الروائي) أبكر آدم اسماعيل، و(الاستاذ الاديب القاص) اسحق احمد فضل الله .
هذا الوضع حشر مجتمعنا بين بين نموذج المثقف الغاضب (المحارب) الذي كان علي استعداد لتقديم روحه ودمه فداء لتصوره وتقديم أرواح ودماء غيره أيضاً من أبناء الذين يشاطرونه ذات الايمان بما يقول وبما يري ..وارواح أؤلئك الذين لايؤمنون .. لأنهم حينها يكونوا "الاعداء" الذين تجب مقاتلتهم ومجالدتهم؛ ومن الجهة الرديفة المثقف (صانع الغضب/ الحربي) الذي اختار ان يبقي بعيدا عن أتون الحرب متعهداً فقط بتوفير الوقود المعنوي والفكري اللازم لإبقاء الحرب مشتعلة ولتشغيل ماكينة حصد الارواح والتدمير؛ وايضا توفير الوقود اللازم لافناء "العدو" أخلاقياً ومعنوياً ونفسياً!!.
في حالة النموذج الاول (المثقف المحارب) كان القدر حاسماً حين قرر ان عليه ان يدفع ثمن خياراته وتحالفاته الحربية والسياسية والمخابراتية... قبل ان تسح له فرصة ان يري مثاله يتحقق تصهر..فكان ان شهدنا جميعاً "ومع رفاقه من المقفين المحاربين" جسده وهو يحترق قربانا علي مذبح التحالفات قاب قوسين من عتبة حقيق الحلم واعلان الانتصار المجيد!، شهدنا ذلك ونحن نعلم ان المثقف المحارب هو الاكثر تأهيلاً واستعداداً لذلك لأن الحرب بطبيعتها نار المحارب وتجعله اكثر قدرة علي رؤية الابعاد الكاملة للصورة، وهي نار تعلم المحاربين وان كان بثمن باهظ ان "مراد النفوس أهون من أن نتعادي بها وان نتفاني " (يفني بعضنا بعضا)، وان الوصول لذلك المراد لايستدعي ان "نركب سنانا علي كل قناة انبتها الزمان"!!.
أما في حاة المثقف الحربي فان الاقدار قد تمهله ليري مافي اليوم والغد بعده! والايام تمنحه فرصة ثانية ليختار فيها بين البحث عن مثقف مقال آخر يمثل آلة لتحقيق هدفه ومثاله (وهمه) ، او العودة عن درب فكر وفلسفة وفكر الالام والكف عن التحريض الافنائي والاحتكام لمنطق الحوارالدؤوب والاقناع والتطور اللاعنيف.
تعليقات
إرسال تعليق